آراء

فنية الزمن الصافي في فيلم: “تحت سماء واحدة”

غفران قسَّام

بطاقة تعريف:

عنوان الفيلم تحت سماء واحدة: رمضان في يوم واحد Ramadan In A Day
عام الإنتاج 2023
المُخرج مجتبى سعيد – حاصل على جائزة أفضل مخرج 2015
نوع الفيلم وثائقي قصير
لغة الفيلم ألماني- عربي. (بترجمات: عربي، ألماني، إنجليزي)
جوائز الفيلم نال جائزة “النخلة الذهبية” لجنة التحكيم – الدورة 9 من مهرجان أفلام السعودية 2023

اختلافنا تآلف!

“تحت سماء واحدة”، فيلم للعالم. يقدِّم رؤية إخراجية نوعية في صناعة الأفلام السعودية. إخراج مدهش في تقديم موضوع مألوف محبوب: “رمضان” الذي تشابهت فيه الحكايات وروايتها وعرضها في كثير من الأعمال، لكنها بعدسة المُخرج السعودي «مجتبى سعيد»، قد بدت مميزة بخطاب مونتاجي وثائقي عالمي مختلف في الأداء الفني؛ إذ يستطيع العالم – على اتساعه واختلافه – فَهْم رسالته بسلاسة؛ لبساطة الطرح ووضوح الرؤية. ويظهر في:

1-مشاهد الفيلم التي التُقطتْ أبعادها برؤية بصرية تجمع بين: جمال الحركة والزمن؛ يدعو بها المُخرج المُشاهدين إلى رؤية الموجودات البصرية المألوفة بعمق من خلال مونتاجها بأسلوب غير مألوف – حسب رؤية دافنتشي في نظريته عن التصوير. كمشهد “انتصار” وهي تداعب قطَّتها أمام شاشة الحرم المكِّي فترة السَّحور، أو مشهد دعوة الملاكم “فرات” فريق مدرسته للإفطار الجماعي، أو مشهد حواريٍّ عن حنين العرب المهاجرين لسماع الأذان في أوروبا – بعد انقطاع فترة طويلة عنه، أو مشهد عناية “مريم” باجتماع العائلة حول السفرة صباح عيد الفطر… إلخ. والمُدهش أن تلك المشاهِد مؤثرة لبساطة السيناريو مع دقته الزمنية تمامًا كما دقة الثقافة الألمانية مع الوقت وجديَّتها في الإنتاجية والعمل.

2-انتقاء الموسيقى التصويرية: ظهرت في الفيلم ناعمة الوتر، قصيرة المدى، غير صاخبة وليست مستخدمة دائمًا؛ بل تؤدي دورها مع الشخصيات، وكذلك مع تتبع مشاهد السماء في الفيلم. وربَّما صناعة الانبهار بشفافية السماء، يؤيِّده الجانب الروحي عند المشاهدين، لا سيَّما أن الرضا الداخلي هو مطلب الجميع. ولهذا، يُلاحظ أن الموسيقى التصويرية تعتمد كثيرًا على أصوات الطبيعة كزقزقة العصافير، صوت الفراغ! الأنفاس وهي صائمة وتعمل، أصوات السوشيال ميديا والمقاهي والأسواق والشوارع، أصوات الأذان، أصوات إعداد القهوة العربية وموائد الإفطار. أصوات الصغار في مركز ضيافة الأطفال، وحيوية أنشطتهم وشغفهم بالحياة، أصوات لعب الأب مع ابنه نهار رمضان. ولعلَّ هذا النوع من الإخراج يساهم في تقديم العمل السينمائي بشكل مباشر في التأثير والتوثيق، خاصة أن الفيلم لا يخلو من جماليات نقل الواقع كحقيقة إلى الشاشة بشفافية عالية.

3-اختيار ستِّ شخصيات وفق مهنتهم الأكثر تداولاً وشيوعًا في أوروبا: مصممة أزياء (مريم)، وبطل الملاكمة (فرات)، ومربِّية للصغار (انتصار)، ودي جي (بهاء الدين)، وطالبة مدرسية (رحمة)، وإمام الجامع. كذلك ظهورهم بماكياج سينمائي عفوي التفاصيل، اهتمَّ المُخرج ببساطته كي يتلاءم مع طبيعة موضوع حكاية الفيلم. ويظهر أن الفيلم يستهدف – بالدرجة الأولى – الجمهور المتحدِّث بالألمانية فالإنجليزية، فالعربية. إذ اعتمد على اللغة الألمانية كلغة محكيَّة في البلد المهاجَر إليها بين الشخصيات مع تحدثهم لغتهم الأم: العربية (مختلف اللهجات: اليمنية، المغربية… إلخ) والتركية.

فنية الزمن الصافي:

بنى تاركوفسكي – مُخرج ومنظِّر سينمائي روسي – مشروعه الفني على رؤية تشير إلى أن: السينما هو فن الزمن. الزمن الصافي بوصفه لحن الوجود وصلصال الواقع، كما عبَّر عنه حمادي كيروم. فالسينما ليست فنًّا مرئيًا، ولكنها فنٌّ لا مرئي يلجأ إلى الفضاء السينمائي ليعبِّر عن الوقائع الحياتية ويرصد التحوُّل والتغيير الذي يقع عليها. فهو فنٌّ يرصد مرور الزمن ومحاولة لعرضه كي يتمظهر بصريًا. ويلاحظ أن ذلك العرض البصري، قد وظَّفه المُخرِج في ثلاثة فضاءات زمنية؛ لإدارة التشويق في حكاية الشخصيات وتبئيرها في الحدث الكبير: اليوم الأخير من رمضان، ثم ولادة الهلال الجديد (عيد الفطر المبارك). وتلك الفضاءات الزمنية تظهر بتدرجات لونية ساحرة صاعدة في بريقها ولمعانها، هي:

  1. زمن السحور (Suhür) وألوانه الزرقاء القاتمة مع سوادها الهادئة.
  2. زمن الإفطار (Iftär) وألوانه العامرة بالشفق وغروب الشمس.
  3. دخول عيد الفِطر (Eid al-Fitr) وألوانه المشرقة بشروق الشمس.

حول ذلك، صنَّف جيل دولوز السينما في مفهومين: الصورة – الحركة، والصورة – الزمن. ويوافقه في ذلك تاركوفسكي الذي وجد تزاوجهما مهمًا في العمل السينمائي لنحت ضوء الزمن؛ لأنه يرى أن الزمن الموجود في الصورة – الحركة سيختفي ليترك مكانه للزمن الصافي الذي سيُفهم كسلسلة تنتمي للديمومة التي تظهر في التجاور والتحاور والتراكم لا التتابع. ليسمح هذا التراكم بالمرور من قوة دنيا لقوة عليا. وليسمح بتعبير الشخصيات عن حياتها اليومية بتلقائية دون تصنُّع. وهو ما يمكن ملاحظته في حوارات الشخصيات، وكذلك في عرض فنيات الأزمنة الثلاث خلال يوم واحد فقط! لكنها في الحقيقة تشير إلى مغزى حضورها التراكمي الروحي شهرًا كاملاً لا يومًا واحدًا. ليتنقل الشعور الإنساني من القيم السفلية (الأرض) إلى القيم العليا (السماء) تراكميًا أيضًا، بدءًا بطهارة القلب إلى سلامة اللسان من الألفاظ غير الإنسانية. وتلك الرسالة واضحة في حوارات الشخصيات مع الألمان رغم تعدد طوائفهم وأديانهم. لهذا يكثر في الشهر الفضيل انتشار التراحم في الأرض، والتكافل. كما تبدو الأواصر العائلية والإنسانية في كامل بهجتها لاستقبال نور السماء محبة ورضًا. ولعلَّ الفيلم يدعو إلى تمثيل تلك المعاني طوال العام، وليس في شهر واحد فقط أو يوم واحد فقط!

ويمكن إضافة ملمح جمالي آخر في إخراج ثيمة الصعود سينمائيًا، ظهرت عبر ربط المُخرج حركة الكاميرا وانتقالاتها الجغرافية، بالشعور بأهمية الزمن فيما بين تلك الفضاءات الثلاث. فاستشرف المُخرج عرضَ المُدن الألمانية بصريًا بأسلوب تصاعدي جغرافيًّا يتناسب مع قيمة الصعود الاجتماعية والدينية والروحية والفكرية الحاصلة. فبدأ المُخرج رحلة كاميرته من مدينة مانهايم، فغوبنغن، فإيسين، فالعاصمة برلين؛ وانتهى بمارل، ثم عاد نهاية الفيلم إلى مدينة مانهايم، حيث نقطة ابتدائه بها. ولم يبتدئ رحلته – كما هو متوقع – بالعاصمة. وظهرت فكرة ابتدائه من جنوب غرب إلى شمال غرب تصاعديًا غير اعتباطية فنيًّا، بل متلائمة مع القيمة العليا التي يعزِّزها الفيلم، خاصة أن الحركة الأخيرة قد ظهرت مع مشهد سماء العيد والشمس فيه مشرقة صافية. ويمكن تمثيل تلك المزاوجة الإبداعيّة بين الحركة والزمن بعرض اتِّجاه السير الجغرافي بين المُدن في الفيلم؛ إذ قدَّم صورة سينمائية حقيقية المبنى والمعنى، كالآتي:

اقتباس من الفيلم:

«في الفجر تبدأ العصافير بالزقزقة، تشرق الشمس ببطء. أشعرُ بطاقة الطبيعة. بقوَّة الله اللامتناهية. عند غروب الشمس، ننهي جميعًا صيامنا معًا. ببساطة، الأمر يملؤني بالرضا الداخلي». شخصية: فرات أرسلان – بطل الملاكمة في العالم.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى