آراء

أفلام الرسوم “المتحركة” للأفكار الكبرى.. الجانب الآخر من الحقيقة!

د. أشرف راجح

طرحت الأفلام الضخمة التي قدمتها شركة “والت ديزني” في الأربعينيات والخمسينيات مثل: “فانتازيا” و”ديمبو” و”بينوكيو” و”بيتر بان”، إمكانية أن تكون أفلام الرسوم المتحركة الأسرية تجارية أيضًا، وهي تخاطب الأطفال وتمتع كذلك من يصحبهم إلى دور العرض من “الأسرة”. إنه عالم أفلام الرسوم المتحركة الجميل، هذا العالم السحري الذي نحيا فيه منذ الطفولة ونستمتع داخله بالخيال المطلق المحلق، وقصص الحيوانات الرمزية التي تقدم بصورة رائعة معاني إنسانية أو مغزى أخلاقيًا ما، باعتبارها أفضل وسيلة لترسيخ تلك القيم لدى «الصغار». ولكن هل تلك الأفلام هي أيضًا مجال مناسب لطرح الأفكار السياسية أو الفلسفية العميقة التي تشغل عقول «الكبار» وتؤرقهم؟!

الإجابة تبدو جلية في فيلمي رسوم متحركة حديثين نسبيًا، يبدوان عاديين لأول وهلة في براءة آسرة. ولكن مع تأمل الخطاب المتضمن داخل الفيلمين، فإن الرؤية تختلف. الأول هو فيلم «النحلة Bee Move» من إنتاج «دريم ورك» الذي قدم عام 2007، ويدور حول «باري» ذكر نحل صغير متمرد يرفض الانخراط في عمل الخلية، يلعب دوره صوتيًا نجم الكوميديا التلفزيونية «جيري ساينفيلد»؛ يثور على استغلال الشركات لإنتاج النحل، ويقرر أن يرفع قضية على تلك الشركات المنتجة للعسل، تعاونه «فانيسا» شابة جميلة تدير محلاً للزهور، وينشأ بينهما تعاطف «إنساني»، وبالفعل يكسب القضية وتقضي المحكمة بإغلاق كل مناحل تلك الشركات. يصاب النحل بالكسل بعد أن أصبح «خالي شغل» يستمتع فقط بحياته، ولكنه يصبح مسؤولاً كذلك عن اختلال التوازن الطبيعي للبيئة بعد توقفه عن تلقيح الزهور والنباتات مما يؤدي إلى جفافها وذبولها. ويحدث التحول الدرامي في الجزء الأخير من الفيلم، حين ينطلق النحل بقيادة «باري» ذكر النحل المتمرد سابقًا، ليبدأ في محاولة إنقاذ الموقف وإعادة تلقيح الزهور التي تشارك بها «فانيسا» في مسابقة كبرى للزهور.

الفيلم مليء بالتفاصيل الكوميدية التي تقترب بعالم النحل كثيرًا من واقع عالم البشر. منها إنشاء خط شبه عاطفي بين البطل «باري» هذا الذي لا نستطيع أن نراه بدقة، والبطلة الفاتنة التي تتعاطف مع قضيته وتعاونه. وبالطبع الرسالة الواضحة للفيلم تشجع على أن يقوم كل فرد بعمله المنوط به دون تذمر، وإلا فإن العواقب قد تكون وخيمة على الجميع. ولكن ما يقدمه الفيلم بصورة مغلفة مهذبة رقيقة أيضًا، هو رسالة ضمنية أعمق حول أن التمرد على «السوق» وآلياته الحاكمة كذلك قد يجلب الضرر للكل؛ وهو ما قد يحيلنا على أرض الواقع إلى الموقف الحالي في صناعة السينما الأميركية من شلل شبه كامل نتيجة لإضراب نقابة كتاب السيناريو الذي بدأ في مايو 2023، تلاه زملاؤهم من نقابة الممثلين في شهر يوليو، اعتراضًا على تناقص عائدات حقوق الأداء لأعمالهم التي تبث على المنصات الرقمية المعتمدة على اشتراكات المشاهدين وليس على عوائد الإعلانات كما هو الحال مع القنوات التلفزيونية التقليدية؛ مما يعد إحدى الأزمات الكبرى التي تحيق بالصناعة العريقة حاليًا، والتي تحتاج إلى الوصول لحل وسط بين صناع «العسل» وموزعيه!

أمَّا الفيلم الثاني، فهو فيلم «قدم صغيرة Small foot» عام 2018، والمقدم في رسوم ثلاثية الأبعاد من إنتاج «وارنر»، ويدور حول ميجو» «تشانينج تيتوم» أحد مخلوقات «اليتي» الخرافية المعروفة بالقدم الكبيرة، والتي يعتقد بعض البشر من رواد الجبال المكسوة بالثلوج أن هناك كائنات ضخمة منها تحيا مختفية في كهوفها. ولكن الفيلم يقدم الناحية الأخرى من المرآة المزدوجة لنرى الصورة على الجانب الآخر. «ميجو» يتمرد أيضًا على وصايا حكمائهم بعد تصديق «خرافة» وجود البشر. هو مقتنع تمامًا بأن تلك المخلوقات بعيدة المنال المعروفة باسم البشر، موجودون بالفعل وليسوا مجرد قصص خيالية تُروى، وأنه يمكن الوصول إليهم. ويزداد اقتناعه حين يرى أثرًا في الثلوج «لقدم صغيرة»! يُطرد ميجو من تجمع جنسه الذين يحيون في سعادة عقابًا على إعلانه عن أفكاره المزعجة المتحدية لكل تراثهم الفكري والميثولوجي، والقول بعكس «معتقداتهم». ويبدأ مع صديقه في رحلة مغامرة تنتهي بنجاحه في اجتياز الثلوج والوصول إلى إحدى المدن الصغيرة، وصنع هذا التواصل الحميم بين بني البشر وبني «اليتي»!

رسالة فيلم «قدم صغيرة» الإنسانية واضحة تمامًا حول أهمية التفاعل والتعاون والصداقة بين كل المختلفين في الأشكال والأجناس والأعراق. ولكن قصة الفيلم كذلك تحمل أبعادًا رمزية واضحة، تجعله أشبه بأمثولة Allegory تعكس ضرورة أن يتخطى الإنسان مخاوفه البدائية المغروسة فيه، وكل تلك الأفكار البالية التي توارثها جيلاً بعد جيل، كمجموعة الأحجار الملونة التي يرعاها سدنة «اليتي»، حتى اكتسبت درجة من القداسة؛ بحيث ينطلق هذا الإنسان الحر الواعي لينظر ويبحث ويناقش ويفند، في مغامرة فكرية هي السبيل الأول للتقدم، ولا يستسلم لأساطير كائنات «اليتي» المعزولين في سعادة الجهل فوق قممهم الجليدية الشماء.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى