آراءكُتاب الترند العربي

الذكرى الأبدية

رشا كمال

عندما نذكر تمثيل مرض الزهايمر في السينما، فأول ما يتبادر إلى الأذهان هو الأداء الذي قطع نياط القلوب للممثل المخضرم، أنتوني هوبكينز، في فيلم الأب. الذي جسد من خلاله صورة عن الواقع، لكن فور انتهاء الفيلم يسقط الإيهام التعاقدي بينه وبين المتفرج، مدركًا الأخير أن هذا كان مجرد تمثيل. لكن، ماذا عن الواقع نفسه، هل إذا ما رأينا على الشاشة رجلًا يفقد هويته وذكرياته وهي تنساب كالرمال من بين أصابعه، فسيكون لها نفس الأثر؟!

قدمت المخرجة التشيلية، مايت البيردي، وثائقيًا بعنوان “الذكرى الأبدية” The eternal memory عن زوجة تقوم بتسجيل لحظات، أو بالأحرى ذكريات من حياتها وزوجها الذي بدأ الخرف ينهش عقله. تعدى الوثائقي محاولة “تسجيله” للحظات إلى محاولة “تخليدها”، بما يتفق مع قول الناقد الفرنسي الكبير أندريه بازان: “إننا نتفق جميعًا على أن الصورة تساعدنا على تذكر الموضوع، وتحفظه من موت روحي آخر”. وهذا ما سعت إليه الزوجة عندما سمحت بمعايشة اللحظات الخاصة بينها وبين زوجها لنرى معاناة المرض، والحب الذي كان يقهر هذا المرض. بالإضافة إلى القرارات الإبداعية للمخرجة، واستغلالها لأدوات الفيلم الوثائقي لتحويل الفيلم من مجرد فيلم إلى ذكرى.

يفتتح الفيلم على مشهد لرجل نائم، توقظه سيدة، ليس لديه فكرة عمن تكون، وأين هو، لكنه هادئ، بشوش، يتجاوب معها في الحوار، تخبره أنها جاءت لتساعده على تذكر من يكون، وتخبره باسمه وهو أجوستو جونجورا.

تنتقل بنا المخرجة إلى عرض لقطات أرشيفية يظهر فيها رجل في ريعان شبابه في فترة السبعينيات، يعمل مراسلًا صحفيًا اسمه أجوستو جونجورا. ثم نعود للسيدة وهي تخبره عن نفسها، تكرر المخرجة مرة أخرى استخدام اللقطات الأرشيفية للتعريف بالزوجة وهي الممثلة، والوزيرة السابقة للمجلس الوطني للثقافة والفنون في تشيلي باولينا وروتيا فيرنانديز. هكذا قامت المخرجة بالتعريف بالأشخاص الرئيسيين في الفيلم، ومشكلة الرجل، والهدف من الفيلم.

استغلت المخرجة النوع المركب «synthesis documentary» من الوثائقيات، الذي يمتزج فيه عدة أنواع، والفيلم من نوع السينما الوثائقية المباشرة «direct cinema» الذي تسجل فيه الكاميرا بشكل حر دون تدخل المخرج، مع استخدام اللقطات الأرشيفية، والصور الفوتوغرافية لنقل سيرة وتجربة أشخاص حقيقيين. والهدف توطيد العلاقة بين المشاهد وهؤلاء الأشخاص، وتكثيف التجربة الشعورية تجاههما.

وهذا من خلال الاختيار الواعي للمشاهد من فترة شباب ونضج هذا الرجل، ومعايشته للأحداث المؤلمة للانقلاب العسكري في تشيلي، وفقدانه أصدقاءه أثر ذلك، وعرض جانب من حياته العائلية، والخاصة. ثم عندما نعود للحاضر، نرى آثار الزمن على الزوجين، ونستشعر الحميمية والعفوية والدفء بينهما، ونجد أن المرض والتوهان بدأ يتجسد في نظراته الحائرة، وهو يتمسك بالحياة بكل قوته، أمام عدو يقتات على ذكرياته.

الذكرى والهوية مواضيع أساسية في الفيلم. وتلعب فيه على عدة مستويات، الذكرى موجودة على مستوى شخص أجوستو جونجورا كصحفي عاصر فترة حرجة في تاريخ بلاده، وله مؤلفات حرص من خلالها على إبقاء ما عاصرته تشيلي حيًا في ذاكرة الأجيال الشابة.

وجونجورا الهرم الذي تضيع منه الآن ذكرياته التي تعني له هويته. والذكرى حاضرة بحرص الزوجة على توثيق لحظاتهما بنفسها، وعلى مستوى الفيلم نفسه كذكرى باقية أمام الزمن.

يظهر هذا مثلًا في مشهد تقرأ فيه الزوجة لزوجها مقدمة كتابه التي يبدو أنها كانت نبوءة للحالة التي آل إليها كاتبها:

«دون ذكريات لا ندري من نحن

دون ذكريات نتجول متخبطين، ولا ندري إلى أين!

دون ذكريات لا وجود للهوية».

كل هذا أعطى ثقلًا لفيلم لم تتخطَ مدته الـ85 دقيقة.

ومسألة ارتباط الذاكرة بالهوية على اعتبار أنها القاعدة الأولية التي تغذيها، نجدها في ذروة انفعالية حقيقية موجودة في الفيلم، متمثلة في لحظة انهيار هذا الرجل، وهو يصرخ باكيًا خائفًا من ضياع كتبه ويقول:

«لا أقوى على ذلك، لا أعرف ماذا يحدث لي».

وتبكي عيونه الحائرة مثل الطفل الصغير. حقيقية هذا المشهد كانت مرعبة وتفطر القلب، لأن المخرجة مهدت لها بعرض تسلل المرض لحياة الزوجين تدريجيًا، فهذا لم يكن تمثيلًا مثل لحظة انهيار أنتوني هوبكينز في فيلم «الأب» باكيًا وهو يبحث عن أمه.

لأن جونجورا لم يكن نفس الشخص الذي رأيناه في أول الفيلم يمشي بحيوية ممسكًا بيد زوجته وهي تقرأ له، لنصل في النهاية وهي تساعده على المشي وهو مغمض العينين، يتخبط في خطواته كالأطفال.

نجحت المخرجة في توطيد العلاقة بين المشاهد والزوجين من خلال استخدام اللقطات الأرشيفية التي تستعرض من خلالها تاريخ العلاقة بينهما، وعندما تعود منها للوقت الحاضر تستحضر كاميرتها اللحظات المرعبة التي يفقد فيها أجوستو زمام الأمور، فاستغلت ضبابية الصورة – Blur في المشاهد التي تضيع فيها ذكرياته، وهو يتحدث لنفسه أمام المرآة كشخص آخر غير مدرك أن هذا انعكاسه.

وكانت الكاميرا تتجول بمفردها وتستعرض منزل الزوجية الذي ضم بين جدرانه ذكريات الزوجين، لتصل في النهاية إلى أقفاص طيور الكناري التي كانت موتيفة بصرية متكررة عبرت من خلالها على حصار أجوستو داخل عقله.

حتى تصاميم العناوين لبداية ونهاية الفيلم، كانت تتلاشى فيها الحروف المكونة للكلمات تدريجيًا.

كل هذه جملة كانت من الخيارات الإبداعية التي عملت على تحويل الفيلم إلى ذكرى.

فيلم “الذكرى الأبدية” فيلم عن الحب في المقام الأول، فرغم المرض فإن الحب يظل باقيًا، مثل المشهد الأخير بعدما احتل المرض أجوستو جسدًا وذاكرة، يقول لزوجته:

أريد أن أبقى معكِ حتى نهاية حياتي، ويشكرها على كل شيء، وهي ترد بدموعها بالمثل.

تلتقطهما كاميرا المخرجة في مشهد يتشابه تكوينه مع الأفلام الرومانسية حيث الحبيبان وسط الطبيعة.

جمل يختم بها الفيلم رحلة جميلة يظهر فيه تفاهم الزوجة وهي تقف إلى جانب زوجها في محنته، وصبرها على المرض، وتهدئته في لحظات الهلع. الفيلم مؤلم وحزين، لكن به ابتسامات، وعواطف دافئة، تجعل المشاهد يشعر باقتحامه عالم هذين الشخصين، متلصصًا عليهما، وساهم في ذلك ابتعاد المخرجة عن المشهد.

مثل هذه الأفلام تعيد بهاء الأيام الأولى للسينما، عندما كان الأخوان لوميير يضعان الكاميرا لالتقاط اللحظة دون تدخل منهما، حتى يحافظوا عليها من الزمن.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى