
زائرات الليل الثقيل
هلا خباز
هل فكرت كم ذكرى ظهرت لك فجأة ومن العدم؟!
موقف ما، كلمة، شخص في عداد المفقودين، غير موجود في مخزون ذكرياتك، في مخزون صورك، في حياتك.. وبلا سابق إنذار يظهر فجأة.. من أين؟ ولماذا الأن؟ ووين كان وليه ارتبط ظهوره بشعور ما!
في أمسية رمضانية جلست أنا وصديقاتي نرتب مسلسلات رمضان ونبدي رأينا الذي لن يؤخذ به على أي حال من الأحوال بالإنتاج الدرامي لهذا العام، حاز مسلسل “لام شمسية” على المرتبة الأولى لعدة أسباب ستعرفونها لاحقًا.
وقبل ما نكمل قبعة وتحية كبيرة لصناع مسلسل “لام شمسية” لأنه و في ظل الكم المهول من الإنتاج الفني الذي لم أشاهد أغلبه برز كنجمة مضيئة في السباق الرمضاني، لست الناقدة الفنية، ولكني المشاهدة التي استمتعت بالفكرة والسرد والأداء الراقي، وبمناقشتهم لقضية حساسة دون أن يخدشوا حيائنا بلفظ أو مشهد، لأنهم قبضوا قلوبنا مرارًا ونحن نتذكر.
أنا هنا، أكتب لكم الآن، لأني المرأة التي تهوى الجلوس خلف النوافذ تتذكر، أكتب لكم لأني أحب احتضان الأصدقاء، ولأني مؤمنة بأن وراء كل ضحكة أو سكون قصة مخبأة في المكنون، لأني انسانة أربط الأشياء وامتص آلام المحيطين بي في كل الأحوال.. ولأن “لام شمسية” أعطاني الدافع والجرأة لأن أكتب بعض ما خبأته ذاكرتي بعد أن استأذنت أصحابها ، وبعد أن طفت الكثير من الذكريات من عقلي الباطن.
أكتب لكم لأن أعوامنا الخمس والأربعين التي نقف على مشارفها تعفينا حرج الاعتراف، ولأن ما سأكتبه قد يخفف ثقل زائرات الليل الحزين على الكثيرات من أمثالنا.
ملاحظة: لست بطلة غالب المواقف إن أردتم التصديق، وجميع الاقتباسات ستكون من حوارات أبطاله الأبطال المبدعين.
“لا الصدمات مش بتقوي، الصدمات ممكن تكـسر أو تدمر البني آدم، التعافي من الصـدمات هو اللي بيقوي”
صيف وشمس حامية لذيذة اجلس تحتها وأنا أشرب عصير برتقال منعش، أغمض عيني طفلة تخرج من المسبح وصراخ المربية على شخص ما في الحمام !!
زرت منزلنا القديم كنت أتخيل مطبخه كبير كملعب كرة قدم.. بدى لي عادي وقفت أمام المغسلة كان هناك شخص يعمل في المنزل شاب طويل عريض.. مممم أعتقد أنه سمين أجوف، تذكرت صراخ بابا في خلفية المشهد.. وهوب اختفى ذلك السمين كان اسمه أحمد، رفعت السماعة على ماما هل كان لدينا عامل في المنزل اسمه أحمد؟ ولماذا اختفى فجأة؟
ببساطة لا أتذكر !!
بالمناسبة السمين أحمد هو ذاته من كانت المربية تصرخ عليه في الحمام المخصص للأطفال!!
لم أستطع فعل شيء لها.. سوى أني حضنتها أسفة عوضًا عن أبطال “لام شمسية” وعوضًا عن حضن والدتها التي لم تعرف شيئًا وقتها.
ومضة جعلتني ألتفت يميني على السيدة نون، سألتها لمَ تكرهين الأحضان؟ لم تهربين من إظهار مشاعرك دومًا؟ لم تجب أغمضت عينها فعرفت.. أعاني بين فترة وأخرى من اكتئاب خفي أو كما يسمونه الاكتئاب المبتسم شخصت نفسي من مقاطع التيك توك.. ما علينا الحقيقة أني أعاني من الخذلان موجات حارقة تزورني في غالب الليالي، ضيف ثقيل يأتي بعد منتصف الليل ويخرج بعد أن تفرغ علبة المناديل الموضوعة دومًا على طاولة السرير.
أحتاج أن أتحدث مع أحدهم طبيب أو معالج، لا يهم.. المهم أن أرتاح، أن ينزل الكائن الأسود من على كتفي بات يحني ظهري.
وفي جلسة مع صديقة نصحتني بزيارة المعالج 7 نجوم ومواعيده صعبة ولكنها ستتدخل وتسبق لي الموعد وتعملي خصم مرتب.. ولأني فاشنيستا وعايشة الدور لازم أرسم لنفسي “لايف ستايل معين”.
ولن أدخل هنا بتفاصيل اللقاء كثيرًا الذي ذكرني به حوار لإحدى ممثلات “لام شمسية”: “فاكر لما حكيت لك عن أول مرة حبيت فيها.. دا ماكنش حب! دا كان تحرش!”، لتكمل بعدها: دا كان استغلال!!
المشهد الذي جعلها تبكي، المشهد الذي جعلها تعود لذلك اليوم، دموعها تملأ وسادتها، بعد أن صحت من نومها العميق واكتشفت أنه كان يستغل ضعفها طيلة الجلسة، وبأن ما فعله زاد الطين بلة ودخلت بعدها بموجة جديدة من الاكتئاب الساخر “سأسميه أنا هكذا” لأنها كانت تتنمر على نفسها، كانت مستاءة من سذاجتها ومن استغلاله لامرأة تبحث عن مخرج!!
حضنتها هي الأخرى.. أنا أسفة عوضًا عن ذلك المعالج وعوضًا عن أبطال المسلسل.. أنا أسفة لأنه زاد الطين بلة صديقتي الغالية.
ذكرتنا أمينة خليل مشكورة بكل ردات أفعالنا، انفعالاتنا، مخاوفنا، انتقاصنا لأنفسنا، سوء اختيارنا.. “نيللي” ذكرتنا بكل أحلامنا المبتورة.. جاءت مشاهدها لتجاوبنا عن كل الأسئلة، ولتضع النقاط على الحروف.
لست هنا لأذكر لكم تاريخ حياتي ولكني بت أعرف نفسي أكثر.
أحبها.. أقدرها.. أسامحها.. وأفهمها أكثر.
أعرف ما وراء لطفي المبالغ فيه، امتناني الزائد للأشخاص، هروبي من السعادة، بت أعرف سبب خوفي من الفقد، تعلقي بالأشخاص، إحساسي الدائم بعدم الأمان.
بت أعرف أن وراء كل ردة فعل.. ذكرى أو فعل بقي عالقًا في الأعماق.
واستحضرهم موقف ما.
مع شخص ما.
لسبب ما.