وفاء الرجل

عمر غازي
في عام 1943، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تفرض ظلالها الثقيلة على العالم، كان هناك جندي أمريكي شاب يُدعى جوزيف غونسالفيس، وقع في حب فتاة فرنسية تُدعى ماري أثناء خدمته في أوروبا، لكن الحرب فرقتهما، واضطر للعودة إلى بلاده دون أن يتمكن من إخبارها حتى بمكانه، لكن ذلك لم يمنعه من البحث عنها لعقود، كتب لها عشرات الرسائل التي لم تصل، وسافر إلى فرنسا مرارًا دون أن يجد أثرًا لها، لم يتزوج قط، ظل مخلصًا لحب لم يكتمل، حتى جاء عام 1998، أي بعد 55 عامًا، حين التقيا أخيرًا بفضل برنامج تلفزيوني وثّق قصتهما، حينها فقط أدركت ماري أن الرجل الذي ظنت أنه نسيها كان ينتظرها طوال حياته.
قصة جوزيف ليست حالة فريدة، لكنها تثير سؤالًا شائكًا: لماذا يُشكك البعض في وفاء الرجل؟ وهل حقًا الرجال أقل وفاءً في العلاقات العاطفية مقارنة بالنساء؟ وفقًا لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2021، فإن 63% من الرجال الذين مروا بعلاقات عاطفية عميقة استمروا في الاحتفاظ بمشاعرهم القديمة لسنوات حتى بعد انتهاء العلاقة، بينما كانت النسبة لدى النساء 48%، وهو ما يشير إلى أن الرجال، رغم الصورة النمطية التي تصوّرهم على أنهم أقل التزامًا، يحملون مشاعر أعمق مما يُعتقد.
الوفاء عند الرجل لا يرتبط فقط بالعلاقات العاطفية، بل يمتد إلى الصداقات، والعمل، والروابط الأسرية، حيث أظهرت دراسة من جامعة هارفارد عام 2019 أن الرجال يميلون إلى البقاء أوفياء لأصدقائهم وشركائهم في العمل لفترات أطول مقارنة بالنساء، حتى في ظل التحديات، فوفقًا للإحصائيات، 72% من الرجال الذين فقدوا وظائفهم بسبب قرارات إدارية غير عادلة استمروا في الدفاع عن رؤسائهم السابقين احترامًا للعلاقة المهنية التي جمعتهم، مقابل 55% فقط من النساء، مما يعكس أن الولاء العاطفي والمهني لدى الرجال غالبًا ما يكون أكثر رسوخًا.
لكن لماذا يتكرر الادعاء بأن الرجال أقل وفاءً؟ ربما يعود الأمر إلى الاختلاف في طريقة تعبير كل من الجنسين عن مشاعره، فالمرأة غالبًا ما تُظهر التزامها العاطفي بشكل واضح من خلال الكلمات والتصرفات العاطفية، بينما الرجل قد يحتفظ بوفائه في صمت، حيث أظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا عام 2020 أن 68% من الرجال الذين فقدوا شركاءهم العاطفيين بسبب الانفصال أو الوفاة لم يدخلوا في علاقة جديدة لمدة لا تقل عن 3 سنوات، رغم أن 80% منهم لم يعبروا عن مشاعرهم بشكل مباشر أثناء العلاقة، مما يعني أن غياب التعبير لا يعني غياب المشاعر.
من ناحية أخرى، فإن طبيعة الوفاء عند الرجل قد تأخذ أشكالًا مختلفة، فبينما تميل المرأة إلى الحفاظ على الوفاء في المشاعر، يميل الرجل إلى الوفاء في الأفعال، فهو قد لا يُظهر الحنين بالكلمات، لكنه يحتفظ بذكرى العلاقة القديمة في مواقفه، أو في رفضه لخوض تجربة جديدة بسهولة، وهو ما يفسر لماذا يظل بعض الرجال يحملون ولاءً طويل الأمد حتى بعد تغير الظروف.
لكن السؤال الذي يبقى: هل يمكن للوفاء أن يكون عبئًا؟ وهل يجب على الرجل أن يظل مخلصًا لذكرى علاقة انتهت، أو لصداقة لم تعد موجودة؟ أم أن الحياة تمضي ولا يبقى منها سوى القدرة على التوازن بين الوفاء للماضي والقدرة على التعايش مع الحاضر؟