كُتاب الترند العربيعمر غازي

التغيير واللعنة الخفية

عمر غازي

في أعماق النفس الإنسانية تكمن قدرة عجيبة على التغيير، ذلك التحول البطيء الذي يُعيد صياغة المرء وينقله من نسخته القديمة إلى أخرى أكثر نضجًا وتجربة، ولكن، وسط هذا التحول الجميل، يكمن تناقض مؤلم: من يعرفك قبل أن تتطور قد يصبح لعنة عليك، لأنه يراك دومًا بعين الماضي، مهما تقدمت أو صعدت في سلم المجد.

في بيئة العمل، تظهر هذه الظاهرة بشكل جلي، فالموظفون الذين يبدأون رحلتهم في شركة ما وهم في بداياتهم المهنية غالبًا ما يُحاصرون في إطار الصورة الأولى التي رسمها لهم زملاؤهم ومديروهم، تلك النظرة الأولى، رغم بساطتها، تصبح قيدًا يحد من قدرتهم على إثبات أنفسهم مع مرور الزمن، فعلى الرغم من أنه يمكن أن تتطور مهاراتهم، وتزداد خبراتهم، لكن في أعين من عرفوهم في البداية، يظلون “الوافد الجديد”، أو ذلك الشخص الذي يحتاج دومًا إلى التوجيه.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020، فإن 68% من الموظفين الذين يتقلدون مناصب قيادية في شركاتهم كانوا قد انتقلوا إلى تلك الشركات من أماكن أخرى، وهذا الإحصائية بالغة الأهمية كونها تعطي دلالة واضحة على أن التغيير في البيئة المهنية غالبًا ما يكون المفتاح للتحرر من القيود النفسية والاجتماعية التي تفرضها الصورة الأولى، فعندما يخرج الفرد من هذه البيئة، يُعيد تعريف نفسه في مكان جديد، حيث يمكن أن يُنظر إليه دون أحكام مسبقة.

لكن، لماذا يحدث هذا؟ علم النفس الاجتماعي يفسر ذلك بما يُعرف بـ”انطباع القاعدة”، حيث يكون الانطباع الأولي عن الشخص هو الأساس الذي يُبنى عليه الحكم عليه في المستقبل، وهذا الانطباع يكون ثابتًا إلى درجة تجعل من الصعب على الآخرين رؤية التطور الذي يمر به الشخص.

ومن المفارقات العجيبة، أن نفس الأشخاص الذين لم يقدروا قيمتك وأنت داخل الشركة، قد يُسرعون لتقديرك إذا خرجت وحققت نجاحًا خارجيًا، وهي تجربة متكررة نلاحظها حولنا باستمرار، وتؤكدها دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2019، حيث وجد الباحثون أن الموظفين الذين ينتقلون إلى شركات أخرى ويحصلون على نجاحات بارزة غالبًا ما يتم استقطابهم لاحقًا من قبل شركاتهم السابقة بعروض مغرية، لأنهم أخيرًا أصبحوا يُنظر إليهم كـ”خبراء” أو “قادة”، وهي نفس الصفات التي لم تُمنح لهم في بيئتهم الأولى.

لكن، هل التغيير هو المشكلة؟ أم أن العجز عن رؤيته هو ما يعمق الجراح؟ ربما التحدي الأكبر ليس في التطور، بل في إقناع من حولك أنك لم تعد ذلك الشخص الذي عرفوه في البداية.

وفي النهاية، ربما تكون الإجابة بسيطة لكنها صعبة التطبيق: لا تخف من ترك الأماكن التي تحد من تطورك، ولا تتردد في البحث عن بيئات تقدر قيمتك، فالتغيير ليس لعنة، بل هو جوهر الحياة، لكن البقاء تحت نظرة أولى جامدة قد يكون اللعنة الحقيقية، وهنا يأتي السؤال: هل يمكننا كأفراد ومجتمعات أن نتعلم كيف نرى الآخرين كما هم اليوم، وليس كما كانوا في الماضي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى