“هيتشكوك”.. لا تعبث أبدًا بجثة ميتة.. قد تكون منهم يومًا ما
روجر إيبرت
جلس ألفريد هيتشكوك منتظرًا على كرسي بجانب النافذة، وكأنه قاضٍ في المحكمة يستعد لإلقاء الحكم الأخير على قاتل متسلسل. تغلغل ضوء الشمس الصباحي الشاحب لغرفة وأضاء عند قدميه. كان صباح شيكاغو صباحًا ضبابيًا وغائمًا. وقال إنه في مثل هذا الصباح، يتذكر أحيانًا جريمة مقتل مسبح الحمض.
«الجرائم التي ارتكبها رجل كان اسمه هايج «جون جورج هايج» على ما أعتقد. قام بجريمته في مرآب صغير في منتصف الطريق بين لندن والساحل. لقد تعثّر السفاح عندما لاحظت وكيلة مدير فندق «هونسلو كورت» في كنسينغتون خروجه مع النساء والعودة من دونهن… أو شيء من هذا القبيل». بالطبع بمجرد أن ألقت الشرطة نظرةً على ذلك المرآب، قاموا بحل قضيتهم. فوجدوا كل شيء: فواتير الحمض الفسفوري الذي اشتراه، والحوض الذي قام فيه بجرائمه، وحتى بعض أطقم الأسنان البلاستيكية التي لم يتم تآكلها من قبل الحمض.
«في المحكمة، ادّعى السفاح هايج بأنه شرب دم ضحيته. ولكنه بالطبع لم يفعل ذلك. فهذه الحكايات دائمًا غير مرجحة. وعلى أي حال قد تمت محاكمته من قبل السيد القاضي ترافرس هامفريز وتمت إدانته».
انحنى هيتشكوك إلى الأمام قليلًا، ولا تزال يداه متشابكتان على بطنه، وانخفض صوته عندما قال: «أكثر ما شدّ انتباهي في هذه القصة لم يحدث إلا بعد مرور سنوات. حيث تقاعد السيد القاضي «همفريز» أخيرًا، ثم توفيت زوجته، فترك بعد هذا منزله الكبير وانتقل إلى فندق «هونسلو كورت»!. ارتد هيتشكوك إلى كرسيه مرة أخرى وابتهج بابتسامة راضية.
أكمل هيتشكوك حديثه قائلًا «قرأت سيرته الذاتية… وهي تخبرنا أنه عندما تم إبلاغه بالصدفة، ضحك القاضي همفريز بسخرية». سمح هيتشكوك لنفسه بإطلاق ضحكة ساخرة صغيرة محاكاةً لقوله.
فسألته: هل سبق لك أن ارتكبت جريمة قتل؟
قال بثبات وهو يهز رأسه، «لا» ثم وضح جوابه «يخيفني فعل ذلك. لكنني أعتقد أن الجريمة المثالية يتم ارتكابها في اللحظة. لابد أن تكون بالطبع بدون أي مشاعر تمامًا. عدد قليل جدًا من الجرائم كذلك. لدينا جميعًا عاطفة تتأثر بشيء ما. كان هذا هو الحال في فيلم «Marnie» والذي كان يدور حول رجل أراد أن يقيم علاقة مع لصة».
تابع هيتشكوك زمّ شفتيه. وقال: «هذا يذكرني بالقضية التي كتبت عنها الصحف البريطانية عن امرأة وحيدة الذراع، حيث رفعت دعوى قضائية ضد امرأة بلا ساقين بسبب خيانة زوجها لها معها. ولكن بالطبع، كما اتضح في الأخير، أنه كان لدى الرجل «المسكين» ميول للنساء المشوهات. لم يكن لدى زوجته أي ملاذ، حقًا، باستثناء قطع ذراعها الأخرى.
ابتسم هيتشكوك، وكانت ابتسامة دافئةً وحميدة؛ وكأنه سيساعد المرأة بمنشارها. قال: «لو لم أكن في مجالي، أعتقد أنني كنت سأفضّل أن أكون محاميًا جنائيًا كان من الممكن أن يكون ذلك مشوقًا، حيث سأتعرف على المجرمين وجرائمهم، وسأكون نائبًا سيئًا في المحكمة! فأنا أخاف من القانون، وكما تعلمون، من رجال الشرطة خاصةً. فأنا لم أقود سيارة لمدة 11 عامًا بعد مجيئي إلى هذا البلد خوفًا من أن يتم إيقافي وإعطائي مخالفة. أخبرني بعض الأطباء النفسيون أن رهابي يمكن علاجه، لكنني أشك في ذلك. فالكثير من أفلامي كانت عن رجال هاربين متهمين بالخطأ». ارتجف وكأنه اقشعر. «هذا هو الشيء الأكثر فظاعة على الإطلاق.” كان هيتشكوك في شيكاغو للترويج لأحدث فيلم له بعنوان «Topaz»، والذي سيتم عرضه الافتتاحي هنا بعد بداية العام. لسوء الحظ، لم يتم معاينة الفيلم من قبل أي من النقاد قبل زيارته، وبالتالي كان من المستحيل طرح أسئلة محددة حوله.
قال: «لا يهم… سيمكنك مشاهدته قريبًا بما فيه الكفاية. سيعجبك فقط في المرة الثانية… هذا ما أعتقده. أن أفلامي تصبح كلاسيكية، بطريقة سحرية، مع مرور الزمن عليها. فلا تعجب النقاد أبدًا في مشاهدتهم الأولى لها. أتذكر عندما عُرض فيلم Psycho لأول مرة، وصفه أحد نقاد لندن بأنه وصمة عار في مهنة مشرفة. وانتقدته مجلة تايم بشدة لدرجة أنني فوجئت بعد عام، عندما وجدتهم يشيرون إلى فيلم إثارة لشخص آخر على أنه يماثل Psycho في النمط الكلاسيكي».
«ومع ذلك، أخشى أن البعض من أفلامي لم يتم قبولها تمامًا. حتى يومنا هذا، أشعر بخيبة أمل من استقبال الجمهور لفيلم The Trouble with Harry الذي قمت بتأليفه في عام 1955، لقد كان كوميديًا مروعًا من الطراز الإنجليزي. كل أحداثه تدور حول جثة يتم حفرها من القبر وإعادة دفنها حوالي أربع مرات. لقد تم تصويره خلال فصل الخريف في فيرمونت، للحصول على جميع ألوان الخريف: منها الأصفر والأحمر، حيث كان هناك جمال في مظهر الأشجار. سألني بعد ذلك أحد المفكرين الفرنسيين عن سبب اختياري للتصوير في الخريف، وكانت نظريته أنني كنت أستخدم موسم الاضمحلال كنقطة مقابلة لاضمحلال شخصية هاري المسكين». أخذ هيتشكوك نفسًا عميقاً لإظهار مدى سخافة ذلك وقال: «الرسالة الوحيدة في الفيلم بأكمله هي أنه يجب عليك ألّا تعبث أبدًا بجثة ميتة، فقد تكون يومًا ما من تلك الجثث».
كان ذلك المفكر الفرنسي المعنيّ بلا شك هو فرانسوا تروفو، الذي أجرى 50 ساعة من المقابلات التفصيلية الدقيقة مع هيتشكوك وجمعها في كتاب رائع بعنوان «هيتشكوك/تروفو». ولم يكتف تروفو بهذا فقط، وقام بإخراج فيلمًا تكريمًا لهيتشكوك بعنوان The Bride Wore Black لعام 1968، حيث حاول عمدًا تقليد أسلوب هيتشكوك من خلال قصة عن أرملة شرعت في قتل الرجال الخمسة الذين قاموا بقتل زوجها. وحينما سألت هيتشكوك عن مدى إعجابه بفيلم تروفو فجاوبني: «أعجبني كثيرًا… نعم كثيرًا. بالطبع، كنت قلقًا قليلًا بشأن كيفية معرفة الزوجة بوجود خمسة رجال مجرمين، فلم يتم شرح ذلك أبدًا، كما تعلم فهناك بالطبع أشياء معينة يجب تتركها حتى لا تنكشف القصة. لكن أعتقد أنه يجب ألا تترك فرضيتك الأساسية أبدًا…».
«لكن بالرغم من ذلك، فهم تروفو جيدًا أنني أعتمد على الأسلوب أكثر من الحبكة. فالأمر كله يكمن في الأسلوب، وليس المحتوى الخاص بك هو ما يجعلك فنانًا. القصة هي ببساطة مجرد فكرة، تمامًا كما قد يرسم الرسام وعاءً من الفاكهة فقط ليكون هناك شيئًا ليرسمه». فقال هيتشكوك إن مساهمته الأساسية في الفيلم تحدث أثناء كتابة السيناريو. كما قال: «بمجرد الانتهاء من السيناريو، لن أصنع الفيلم على الإطلاق. فكل المتعة قد انتهت بالنسبة لي. فأنا لدي عقل تصوري قوي. أتخيل به المشاهد جميعها وصولًا إلى نقطة الختام. حتى أنني أكتب كل هذا بأكبر قدرٍ من التفاصيل في السيناريو، ثم لا أنظر إليه مجددًا أثناء فترة التصوير. فأكون قد حفظته عن ظهر قلب، كقائد الأوركسترا الذي لا يحتاج النظر إلى ورقة الموسيقى. فأن تقوم بتصوير فيلمك عند الانتهاء من كتابة السيناريو أمر محزن. فيكون الفيلم مثاليًا، ولكن عند إكمال تصويره تخسر حوالي 40% من الفكرة الأصلية».
فتنهد ثم قال: «لا تزال هناك تحديات. في فيلم The Birds، على سبيل المثال، قمنا بحل بعض المشاكل الفنية الممتعة. أتتذكر ذلك المشهد حيث تنقض النوارس على المدينة؟ كان ذلك في الواقع ثلاثة عناصر منفصلة من الفيلم، تم جمعها معاً في مقطعٍ واحد».
في البداية قمنا بتصوير موقف سيارات مع أشخاص يسرعون عبره. ثم كان برفقتنا فنانًا يرسم منظرًا جويًا للمدينة، والذي أخرجناه على الناس بمستوى عالٍ. ثم ذهبنا إلى جرف وألقينا الكثير من النفايات من فوقه، ووجهنا الكاميرا مباشرةً إلى الأسفل لتصوير النوارس وهي تنقض عليها. ثم عملت عليها امرأتان لمدة ثلاثة أشهر ونسختا النوارس من بقية تلك المشاهد، لقطةً بلقطة. وبعد ذلك أضفناها إلى مشاهدنا الأخرى، وهكذا حصلنا على مشهد نوارسٍ تنقض على المدينة. وكنت أشعر بالغضب عندما يذكر الناس أن هذه طيور آلية وليست حقيقية. لكن الآن قد تغير الزمن في هوليوود. أتذكر في الأيام الخوالي كنا نستمتع أكثر بكتابة الأفلام. يمكنك إحضار ثلاثة أو أربعة كتّاب وجعلهم يتوصلون لسيناريو. أما الآن فكلهم يريدون أن ينسب إليهم الفضل. وعلى ما أتذكر، قام روبرت بينشلي بكتابة بعضًا من الحوار لفيلم Foreign Correspondent. وبالطبع ساهمت دوروثي باركر ببعض النكت المضحكة للغاية لفيلم Saboteur، بما في ذلك مشهد الشجار بين الرجل النحيف والقزم».
ابتسم وهو يذكر ذلك «دوروثي باركر. كانت امرأة فريدة. أتذكر ذات مرة أننا كنا جميعًا نجلس في ملهى ستورك الليلي في نيويورك، نتجادل حول نطق كلمة «ski»، أننطقها «سكي ski» أم «شي she». اتخذ شخص ما موقفًا مفاده أن التزلج رياضة نرويجية، وأنه في النرويج ينطقوها «شي» ولذلك يجب علينا أيضًا نطقها هكذا. استمر الجدال وقتًا طويلًا، حتى سئمت دوروثي منه أخيرًا، وطرقت على الطاولة وصرخت قائلة: أوه، skit!».
من الواضح أن هيتشكوك كان مستمتع بنكتته بشكل كبير، وكان لا يزال يضحك وهو يرتدي معطفه ويتجه إلى سيارة الليموزين التي سيستقلها لتوصله إلى جلسة تصوير لبرنامج Kup’s Show.
قال: «أتذكر ذات مرة كنت في برنامج Kup’s Show، ووافقت على الظهور بشرط ألا أقول كلمة واحدة لمدة ساعة كاملة. كان المقدم التلفازي جاك بار في نفس الحلقة، ولم أرغب في التنافس معه. لذلك جلست لمدة ساعة كاملة هناك في صمت تام، ولم أقل كلمة واحدة. وبالطبع حققت مرادي. فقد دفعت جاك بار إلى الجنون تمامًا».
المصدر: سوليوود