السلوك الحضاري ما بين الحضارة المادية والروحية
لبنى الهاشمي
إنّ مفهوم الأخلاق أو ما يسمّى بلغه العصر- السلوك الحضاري – تدركه النخبة المتعلّمة في مجتمعاتنا العربيّة، ولكن لا يعيها الفرد العادي، فانحدار الأمم وتراجع حضاراتها هو بسبب الفشل في بناء أخلاق الإنسان، والمجتمعات المتقدّمة تقيس تقدّم الشعوب بناء على معايير القيم العليا التي تتبنّاها.
هناك معوقات تعوق الفرد العربي عن سلوك أبسط الطرق المتحضّرة،
الأمم المتحضّرة تنضجها المحن والتجربة، وتخرج منها بمعدن أصفى وأنقى، ومن الأمثلة على ذلك حضارة اليابان والصين وألمانيا بعد حروبها المريرة، حيث ثبت بالتجربة أنّ البشرية في صراعاتها مع البقاء، لا تقوم لها قائمة دون تفعيل دور الأخلاق والمواطنة والتسامح والسلام ونبذ الحروب والعنف، وإلا تعرّضت للزوال.
خلال زيارتي لمدينة بون في ألمانيا، شعرت بمعاني الأخلاق -السلوك الحضاري- وتلمّست المدنيّة الراقية في أبسط السلوكيّات الفرديّة، وأدركت حينذاك معنى الإنسان المتمدّن وأنّه من يمتلك الإتقان والأمانة ويقدّر الوقت، ويحافظ على المرافق العامّة لبلاده ويلتزم بالقانون ونظافة مدينته. إنّ السلوك المحترم للمواطن يتمثّل في عدم إزعاج الآخرين، والتعامل باللغة الهادئة.
إنّ أبسط أبجديات التعامل الحضارية غير فعّالة في بلادنا العربيّة للأسف، مع أنّها قيم إسلاميّة يؤجر عليها المؤمن عندما يمتثل بها في أخلاقه، فمثلًا عندما يخبرك المواطن الألماني عن الجودة في البضائع فهي تعني عندهم” شفافيّة”، النزاهة في التعامل”رقيّ”، “أمّا العرفان والشكر فهما مبادرة لا بدّ منها”، الاعتراف بالخطأ، واحترام ثقافه الاعتذار قيمة لمعنى “إنسان متحضّر” حتّى إذا أراد أن ينتقدك الألماني فإنّه يرمقك بنظرة تكفي لإفهامك. هذه القيم الحضارية لا مكان لها في الوعي العربي، وهي فضائل يحثّ عليها ديننا، و كما في الحديث “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
كيف يمكن تزويد الوعي الفردي بالسلوكيات الحضارية المؤثرة؟ هل هناك أزمة أخلاق تعاني منها أمّتنا؟ هل مازلنا أمّة تناقض مبادئها وفضائلها؟
وينبغي أن نفهم أنّ في القرآن كثيراً من الآيات التي تُحدّثنا عن الحقائق المتّصلة بالتطور العلمي، وإعمار الأرض.
هناك معوقات تعوق الفرد العربي عن سلوك أبسط الطرق المتحضّرة، والارتقاء بالقيم التنويرية أو بالمدنيّة الحديثة، التي يدعو إليها ديننا الحنيف، لأنّ التديّن الشكليّ للشباب يتسم بالثقافة الدينية الهشة أو ثقافة متصرف فيها أو مجزأة.. وافتقادها للدقة أو تتماشى وفق مرجعيّات لها أجندات خاصّة تعطّل طاقات الشباب، وتنحرف بأخلاقهم على نحو غير مفيد لأوطانهم، من ذلك نمط الإخوان الذي يساهم في إدخال الدين في دهاليز السياسة، وهناك نمط وعظي يهتم بالعقيدة ولإيابه بالتعامل والقدوة، كما أنّ الخطاب الديني عموماً لا يتّسم بالتجربة المميزة، إذن نحن مجتمع محترق في أفكاره ورؤاه، وهو واقع بمنزلة محاضن تربوية تغرق الشباب في التسطيح والتغييب والغلو.
أوطاننا العربيّة التي تتمتع بالمزايا التقنية والاقتصادية، لن تتأهّل لتكون في مقدّمة الأمم المتحضرة حتى يستتب العدل، وتشيع معاني حب الوطن ونبذ الفرقة والتعصّب، لأنّ عدم فهم الدين بحقائقه يؤدّي إلى عدم التطبيق، ثمّ التخلّف في الأخذ بالقيم الحضاريّة التى لها دور فاعل في التقدّم.
إنّ السلوك الحضاري عند الشعوب المتقدّمة لا يكون بعيداً عن حبّ الأوطان، وهو سلوك يقوّي الشخصيّة الوطنيّة المتعاونة، أي أنّ الفرد غير المتعاون يكون خارج نسق المجتمع، وهناك كثير من الصور والمشاهد المؤلمة التي تجرح شعور كلّ مواطن عربيّ في أوطاننا العربيّة، ومن سطوة تعديهم على الأمن، ومن كثرة قتل العباد فأين لنا أن نلحق بالركب؟!
كما ممارسة الفعل الحضاري هو أنّ يؤمن الجميع بالتغيير، فالرهان الحقيقيّ هو على الإسلام المتسامح المتفاعل مع الواقع، والحصارة الأخلاقية لا الحضارة النفعية، نريد طريقة مغايره تصلح لإنضاج الخطاب الإسلامي ليصلح لكلّ زمان.
حبّذا ألا نكون كالإمّعة في تطبيق السلوك الحضاريّ، وأن تكون لنا شخصيّتنا التاريخيّة وبصمتنا الحضاريّة من الرحمة والرأفة والمودّة فيما بيننا، والتحلّي بالمسؤولية الأخلاقية بميزان ديني، لأنّ لها مردودها من الأجر والثواب، وتنظيم صلة الإنسان بدينه، حتى يكون عمران الدنيا باسم الله، وبناء الإنسان بناءً روحيًّا، وتعزيزاً لفكرة الإعمار، فقد قال سبحانه: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها “.
صفوة القول، إنّ الحضارة الغربية كان الغرض منها- ومازال- بناء مجتمع متحضّر ماديّاً موحّد بأخلاقه الوطنيّة، حسب المصلحة المادية والنفعية، ولا بأس بالأخذ منها مع الحذر.
إنّ إشكاليتنا كأمّة عربيّة مع الحضارة الغربية كونها حضارة ماديّة بحته، عندما تبلغ الحضاره ذروتها من العلو والنهوض تعاني حتماً من سلبيات جفاف المادّة، وغربة المدن وفقدانها دفء المشاعر والأحاسيس، وفقدان التواصل الإنساني، لكن حضارتنا روحيّة أخلاقيّة تربطنا برباط أخوّة الدين تلك المعاملة المثلى التى أرادها الإسلام أن تكون ميزة لتاريخنا، تلك الحضارة التي تؤمن بقيمة التنمية وحب الوطن، حتى نكون روّاد الحضارة والاستخلاف في الأرض، كما في الحديث “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”.