حادث النصف متر “النسخة المصرية”.. عن سؤال الحداثة والرجعية في اقتباس الرواية
رامي عبدالرازق
رغم أنه في طريق العودة من بغداد إلى القاهرة قام الكاتب المصري صبري موسى «2018-1932» بزيارة دمشق، وتوقيع عقد تحويل روايته القصيرة الفذة «حادث النصف متر» إلى فيلم سينمائي، إخراج السوري الشاب آنذاك سمير ذكري، وهو العمل الذي صعد إلى الشاشات بتوقيع المؤسسة العامة للسينما في سوريا بين عامي 81 و82، فإنّ هذا لم يمنع القصاص المخضرم والسيناريست صاحب التجربة الألماسية في أفلمة روايات مثل البوسطجي وقنديل أم هاشم من التصدي لتحويل روايته «الرواية نفسها» إلى فيلم مصري من كتابته وإخراج أشرف فهمي «2001-1936»، الذي كان قد خاض مجموعة من تجارب أفلمة الروايات خلال عقد السبعينيات بدءًا من فيلمه الثاني المُلهم ليل وقضبان «عن رواية نجيب الكيلاني» مرورًا بتجارب لبطارقة الرواية العربية: نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي.
من المعروف أن هناك مدرستين أساسيتين في فن الاقتباس: الأولى يمثلها روائيون من نوعية نجيب محفوظ صاحب الرصيد الهائل من الروايات المحولة إلى السينما، الذي لم يشارك، رغم كونه ممارسًا متمرسًا ومخضرمًا في كتابة السيناريو في تحويل أيٍّ منها، والثانية التي يمثلها مُجايله يوسف السباعي الذي قام بتحويل ما لا يقل عن 80 بالمئة من إنتاجه الروائي إلى أفلام، بتمكُّن شديد، وقدرة تُدرَّس على الفصل بين وسيطي الحبر والضوء.
ما فعله صبري مع روايته ينتمي قطعًا للمدرسة الثانية، حيث أقدم على تحويل روايته بعد عشرين عامًا من صدورها «منشورة 1962» وبعد أن جرى تحويلها بالفعل إلى فيلم سوري ذائع الصيت.
في إثر الحادثة الجميلة
اقتباس الأديب لروايته إلى السينما ليست بالمسألة السهلة كما يتصور البعض، صحيح أن لصبري نموذج يُدرَّس في الاقتباس، خاصة في السيناريو الأيقونة المصُوغ عن رواية البوسطجي ليحيى حقي، لكنَّ تعاطيه مع رواية من حبره الخاص يمكن أن نجزم أنه كان أمرًا مختلفًا.
«حادث النصف متر» هي رواية نفسية باطنية مكتوبة بضمير الراوي المتكلم المتاخم للعليم، أي إن البطل الذي لا يحمل اسمًا لا يتحدث فقط عن أفكاره ومشاعره وحماقاته بل يكاد يحكي أيضًا عما يدور في رأس حبيبته التي بلا اسم أيضًا، التي يتورط معها في حكاية عاطفية وجنسية صعبة مركبة وصعبة التأويل، والفهم الميسر.
يبدأ الكاتب روايته من مشهد النهاية حين يدخل رجل طويل القامة على البطل طالبًا منه أن يتخلى عن حبيبته لأن صاحب الظل الطويل سوف يتزوجها، ويُقبل البطل بهذا الطلب بمنتهى الهدوء والعصرية! وحين يخرج الراجل يبدأ البطل في استعادة عامين من حياته منذ أن تعرف على حبيبته في مساحة نصف متر بأحد أتوبيسات النقل العام، حين ارتطمت به دون قصد نتيجة تزاحم الأجساد، ثم اتكأت بحرج ومودة على ذراعه كي لا يتكرر الارتطام الجميل، مرورًا بالأثر العاطفي والجسدي لهذه الحادثة العابرة التي تجري بعادية شديدة كل يوم تقريبًا في ألف مواصلة عامة بالعالم، ثم تقاطع أثر هذه الحادثة مع جغرافيا مدينة القاهرة ما بين أحياء إمبابة والجيزة وجاردن سيتي، وهي أماكن الشقق التي كانوا يلتقون بها من أجل التباحث في أثر الحادثة الحميمي على أجسادهم الشابة، وصولًا إلى محاولة الحبيبة جلب الزواج كنتيجة طبيعية لحادثة كهذه، وادعائها أنها تحمل ثمرتها في رحمها الصغير، وهو ما سوف يؤدي إلى هدم ليس فقط أي أثر للحادثة، بل جسدها الغض –حيث ستفقد ربع معدتها بسبب محاولات الإجهاض الزائفة لطفل غير موجود- في حين سيفقد بطلُنا غطاءه الاجتماعي والنفسي، متعريًا أمام ذاته من كل القيم الفاسدة لمجتمع يقتفي أثر حادثة الحب على جسد المرأة، ويُعفي الرجل من أيِّ مسؤولية لمجرد كونه صاحب التركيب الفسيولوجي المضاد للفضيحة.
هذه إذن ليست رواية ميسرة للاقتباس بشكل سلس؛ أولًا لأنها عبارة عن حوار باطني طويل من داخل ذاكرة البطل، ومع أحداث قليلة وربما مكررة على المستوى النوعي فيما يتعلق بالميلودراما العاطفية التقليدية التي تؤنِّب الرجل الشرقي على دكتاتورية الفحولة، وتحاول أن تنصف هشاشة المرأة الموصومة بعار العذرية المفقودة إثر حادثة الحب التي هي ارتطام بين روحين وليس مجرد جسدين أو جسد وشرف مغدور.
أحمد ووفاء
ما فعله صبري هو إعادة هيكلة النص على عدة مستويات: أولها نزع التجريد عن صفات الشخصيات، فلم تعد مجرد وجوه مُظلَّلة بصفات تُميِّزها عن بعضها: الرجل العادي، الحبيبة، الصديق الاجتماعي، الرجل الطويل. بل وصمهم بالأسماء فصار البطل هو أحمد «محمود ياسين»، وهو اسم يحمله نصف الرجال في مصر تقريبًا في دلالة على أنه يشبه ملايين الشباب، وأطلق على البطلة اسم وفاء «نيللي» في دلالة أخرى ساذجة، لأنها قررت أن تصارح أحمد بحقيقة أن رجلًا آخر كان في حياتها قبله، وهي الأزمة الأساسية لدى البطل سواء في الرواية أو الفيلم، وأنها تحمل صفة الوفاء لكلا الرجلين اللذين مارست معهما الحب. الأول لأنه استشهد في الحرب، والثاني لأنها لم تشأ إلا أن تكون علاقتهما مبنية على صراحة مطلقة.
ولم تعد الحبيبة مجرد طالبة جامعية مجهولة، بل صارت مُدرِّسة ألعاب رياضية، ولم يعد بطلنا شابًّا في العشرينيات بل صار في السادسة والثلاثين من عمره، وكأن الكاتب أضاف سنوات فوق أعمار أبطال الرواية تقارب العقد الكامل، أي كأن السنوات العشرين التي مرت بين الرواية والفيلم قد تراكمت على أعمارهم بالفعل.
وعلى مستوى السرد، لم يعد الراوي هو صوت البطل، بل أصبح أقرب لصوتين، هما صوت أحمد ووفاء، فالحكاية تتحرك فيما بينهما، وما يحدث للآخرين -مثل أزمة صديقه الزوج الخائن «سعيد صالح» وزوجته، نراه من عيني أحدهما، وليس عبر عيني راوٍ عليم يتحرك بين جميع الشخصيات.
بل إننا نرى المَشاهِد التي كان البطل في الرواية يفترضها في حياة حبيبته مثل العذابات الشعورية، أو عواصف الأفكار، وقد تجسدت في الفيلم في مشاهد تنفرد بها شخصية وفاء، وتؤديها نيللي بإحساس صادق وعذب.
هل هو اقتباس رجعي!
على الرغم من حداثة النص الروائي على مستوى الأفكار التي تجعل من تقاطع الأجساد والمدينة محورًا أساسيًّا لها، أو على حد ما ذكره الناقد الأدبي ممدوح النابي1 أن الرواية هي واحدة من نصوص هجائيات المدن، أضف إلى ذلك محاولة الكاتب في النص الأدبي مزاحمة القارئ بأسئلة عديدة عن معنى الحداثة والعصرية والمساواة ونقد المجتمع الذكوري دون أن يمنحه إجابة واحدة، تاركًا إياه كحال البطل «مجرد رجل أعزب يدخن ذكرياته ويثرثر»، فإن اقتباس النص سينمائيًّا في النسخة المصرية التي شكلها ضوء الكاتب نفسه من حبر روايته جاء في صورة يمكن أن نطلق عليها اقتباسًا «رجعيًّا» على عدة مستويات.
بداية فقد السيناريو ذلك الاشتباك الرائع بين العلاقة الجسدية وجغرافيا المدينة حين كان البطل يتنقل مع حبيبته بين شقق أصدقائه ومعارفه من أجل العثور على مكان يعيدون فيه إنتاج حادثة النصف متر، بعيدًا عن زحام الأتوبيسات. وتحول المكان في السيناريو إلى مجرد عوامة، منزل عائم على النيل، أقرب لجرسونيرة تقليدية بإضاءة حمراء وزجاجات خمر وصور نساء عاريات على الحائط «وهو مسخ باهت لصورة الجرسونيرة الوحيدة في الرواية، التي كانت ملك صديق عاجز جنسيًّا للبطل، لكن وصفها كان أسطوريًّا في النص الأدبي، وبعيدًا عن كلاشيهات الجرسونيرات كما ظهرت في الفيلم، التي هي من ميراث سينما السبعينيات المبتذلة».
وبدا أحمد معتادًا المكان حتى إننا نراه لأول مرة وهو يتردد عليه كجزء من نمط حياته الذكوري التقليدي، في حين كان البحث ومسح الأحياء المرتبط بأيام اللقاءات الأسبوعية جزءًا من أزمة البطل، ومجاز العلاقة المفترضة غير المباشرة بين الحبيبة والمدينة نفسها، فهو في الراوية من أصول ريفية مختلطة كما يشرح لنا معمار النسب الخاص به، الذي يختلط فيه الفلاحي بالتركي بدماء الغازي الفرنسي، ورغم ذلك ترسبت الريفية المتمثلة في الخصال غير الحضرية في شرايينه، حتى أنه بمجرد أن شم بقايا رائحة رجل آخر على جسد حبيبته حتى تأهب لذبحها نفسيًّا وروحيًّا، بعد أن أمَّن لنفسه نصيبًا من جسدها كي لا يشعر بعقدة النقص الرجولية المعروفة.
ثم تفاقمت رجعية الاقتباس عندما أفقد السيناريو تركيبة العلاقة تلك السرية، التي كانت تدعم خصوصية الحادثة، وباطنيتها في الرواية، فصارت خطبة رسمية في الفيلم! صحيح أنَّ تغيُّر شكل السرد يمكن أن يستدعي شيئًا من العلن بعد أن تحرر من صوت الراوي المتكلم الوحيد، لكنَّ سرية العلاقة ومحاولة التحايل على عيون المجتمع سواء كان من الأسرة أو الغرباء، ركاب الأتوبيس، كانت جزءًا مهمًّا من التوجُّه الفكري والمجازي للحكاية كلها.
فالأزمة لم تكن في الناس ولكن فيما نتصوره عنهم من أفكار تخصُّنا، ومشكلة البطل لم تكن في نظرة المجتمع الذي لا يعلم شيئًا عن جسد حبيبته وتجاربه السابقة، ولكن في اختبائه هو نفسه خلف هذه النظرة الزائفة، لكي يخفي حماقته الذكورية كما يصفها في النهاية، التي أفقدته الحبيبة بعد أن بخس بثمن كل المحاولات التي ارتكبتها من أجل أن تُقسم له على الولاء والمحبة غير المشروطة.
على ما يبدو أن السيناريو انشغل بحبكة رجعية في تقليديتها، وهي تأكيد أن الإجهاض كان لجنين حقيقي وليس لجنين متخيَّل، كثمرة علاقة روحية قبل أن تكون جسدية كما في النص، ومِن ثمَّ تحولت دفة الأفكار في النهاية إلى أن أحمد بعد أن أخطأ في حق وفاء جسديًّا وعاطفيًّا -نتيجة لأنه ضعيف أمام نظرته الشرقية لمكانته كذكر- فقدها للأبد! بعد أن رفض الاعتراف بأن ما في رحمها هو أثر نصف متر من الحب، وليس كيلومترات من الخطيئة. ولمَّا لم يشفع لها صدقها ولا توسلها بالعشق والخضوع، وجدت فيمن غفر لها ورحم هشاشتها ملاذًا من خشونة أحمد وغبائه الذكوري والاجتماعي المستحكم، بحكم أصوله البلهاء حضاريًّا.
زاغت عينا السيناريو على الميلودراما العاطفية الضامنة لتعاطف شرائح عريضة من الجمهور رغم كون الفكرة نفسها صادمة ومرفوضة من قطاعات كثيرة بالمجتمع الشرقي، وبدلًا من الحمولة النفسية بالرواية بدت الميلودراما شارحة بشكل اجتماعي أقلَّ كثافةً وتبسيطًا لأزمة الرجل الذي لا يدري كيف يتصرف، حين تعترف له امرأته بماضيها الجسدي! فيحاكمها قبل أن يحاكم جسده الذي ترك أثرًا على أجساد نساء أخريات! أو على حد صرخة وفاء في وجهه «لو كل راجل زيك عرف واحدة واتنين وتلاتة قبل الجواز ورفض إن مراته تكون عرفت راجل قبله مش هتلاقوا ستات تتجوزوها».
المصدر: سوليوود