كُتاب الترند العربي

فيلم “سليق”.. من الطائر السمين إلى القط النباتي

د. محمد البشير

تُولد الأحياء والحارات، وتشبُّ، وتشيبُ، فيشعر من يزورها بعد حين بأن الشوارع ضاقت، والبيوت انكمشت، والأبواب تقزّمت، والحُجر صغرت، ومع كل ذُلٍّ يظلُّ ذكراها أثيرًا لدى زائريها، فزيارتها أشبه ما تكون بالعودة إلى المهد، والارتماء في حضن أم، فالبيت، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار “ركننا في العالم، إنه وكما قيل مرارًا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى”، وهذا الكون يحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء، وقد قامت المخرجة أفنان باويان بهذا الدور في فيلمها القصير “سليق” عندما تناولت بيتًا من بيوت جدة، ودخلته بتقنية محببة للكبار والصغار، فهي وإن كانت تتناول قضية لا يقدرها إلا من يتملكّه الحنين! غير أن هذا الأمر لدى الصغار بمثابة تميمة تضعها في أعناقهم؛ لتعيش معهم، وتظل بلورة يرون فيها مآلات الأمور مبكرًا بفعل الصورة التي تترك أثرًا بالغًا.

التقدير

صُنع فيلم «سليق» بحب، وبدعم من هيئة الأفلام بعد فوزه في «مسابقة ضوء»، ولذلك كانت التفاصيل على قدر كبير من الدقة والعناية بالمطبخ ودقائقه، والأبواب وزخارفها، والحارة بشجرتها وبيوتاتها، ورواشنها، وأعمدة الإنارة، والملابس بتباينها ما بين السيدة الحجازية، والوافدات بملابسهن؛ بل حتى بسماكة الكحل في أعينهن، وهذا ما منح الفيلم حيويته بتركيز المشاهد على التفاصيل التي تصنع الدهشة على مقدار العناية بكل مشهد، ووضْع أثاثٍ يملأ الإطار، ويُقرّب هذا العالم من الواقع بتفاصيله. فهذه التفاصيل هي ما منحت الجمالية التي يتسم بها الفيلم بقالبه التصويري، وإسقاطها على الواقع المشاهَد، فـ«الجميل هو ما يشدُّ الانتباه» حسب وصف الفيلسوف الفرنسي جان لاكوست. واستطاع الفيلم أن يشد من سار في أزقة جدة ذات يوم، أو حتى من شاهدها عبر أي وسيلة تصويرية أخرى، ولذلك كان جديرًا بأن يأخذ مكانته منذ أول انطلاقة له باختياره عرضًا يُفتتح به مهرجان أفلام السعودية في دورته التاسعة، وليشدّ رحاله بعدها إلى مهرجان آنسي الدولي في فرنسا، وفوزه بأفضل فيلم عربي في فئة الأفلام العربية بمهرجان أنيماتيكس في القاهرة، وما زال في طريقه لمزيد من الرحلات والإنجازات.

النموذج المصغر

عمد الفيلم إلى اختزال الأمور وكبسلتها في أقل من 10 دقائق لتكون كافية، ومشهيّة لطلب المزيد، وبوسيلة منتقاة لمخاطبة كل الشرائح العمرية، فالمخرجة اختارت التصوير بطريقة Stop motion، وهي الوسيلة التي لها جذور وحنين، فهي أقرب ما تكون إلى مسرح الدمى والعرائس، وهي التي سبقت السينما بخيال الظل، وصناعة وهم الحركة عند النظر إلى ورق مقوى من خلال مرآة عاكسة، وتطورت في عهد السينما لإخراج فيلم «سيرك هامبتي دامبتي» عام 1898 لجاي بلاكتون، وألبيرت سميث، وانتقاء التصوير بهذه التقنية يضع الفيلم والموضوع في منطقة أقرب للتصور بالنماذج المصغرة مثل عمل المهندسين المعماريين لتقريب تصور ما كان أو سيكون، وهي الوسيلة المنتشرة في جدة للحفاظ على الموروث بالمتاحف الأهلية التي تحفظ الحارة القديمة بتفاصيلها، وربما ينبع ذلك من خشية اندثار الحارة أمام التمدن والزحف العمراني وانتقال الأسر إلى مناطق جديدة ببيوت مختلفة، وتخلخل مفهوم الحارة بانتقال أكثر قاطنيها، واستبدال أعراق أخرى بهم.

اللقطات الاستهلالية

انطلق الفيلم بلقطات سريعة مصحوبة بأغنية «يا ليلة الأنس ما تعودي لنا.. كلن حبيبه بجنبه إلا أنا!» بصوت نستالوجي لفرقة أبو سراج التي لها مكانتها عند أهل الحجاز ومحبي الغناء الشعبي، ومتخذًا المطبخ عتبة وميدانًا للانتقالات، فمن دجاجة يتم تقطيعها، بلقطة علوية تظهر المستكة والهيل، مستصحبًا أثر الرائحة وقدرته على استعادة الذكريات، فالصورة تعمل محفزًا للذاكرة مستثيرة مناطق الحنين، وداعية لدخول المطبخ كحلم يقظة في مطابخنا الأولى بتفاصيلها البسيطة، وهذا ما يريده الفيلم لتعيش الذكريات طيلة الحياة كما يقول باشلار «نظرًا لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة»، فالبيوت تحيا في ذاكرتنا برائحتها، ولا حاسة من حواس الإنسان أكثر قدرة على استعادة الذكريات مثل حاسة الشمّ أيضًا! وأكثرها فاعلية ما اختاره الفيلم من روائح المطبخ، ووجبات الأم الأثيرة، وأولها ما أعلنته في العنوان «سليق»، وهي الوجبة الأكثر رواجًا بتعدُّد طُرق طهيها، ورائحة الطبخ الأقدر على بعث إشارات شميّة للوصول إلى مكانها الأثير في الدماغ، وتحفيز الاستجابة العاطفية تجاه الذكريات التي لها رائحة لا تغيب، فالأطعمة تحديدًا هي ما اختارها «ويلما بوتشي» في النمذجة على الرائحة طويلة المدى، التي وصفها بأن «لديها القوة على استحضار الذكريات لأحداث منذ فترة طويلة»، ومستشهدًا بتأكيد نابكوف على قوة الروائح في إثارة الذاكرة، فالفيلم يلعب على أهم المناطق الحسية: البصرية والشمّية والسمعية، وحين تجتمع كلها في اللقطات الاستهلالية؛ لتؤكد على ذلك من خلال الأغنية ورائحة المستكة والهيل، وبساطة المطبخ القديم بتفاصيله البصرية، وصورة السيدة التي تطهو الطعام، ويبدأ الفيلم معها.

الدخيل

يناقش الفيلم قضية مهمة في تحول الحارات القديمة من خلال صور بصرية وأخرى رمزية، ربما يمكن تأويلها في الحيوانات الحاضرة في الفيلم:«الطائرين، والقط». فبينما يأتي الطائران «السمين، والضعيف» ويتسللان من النافذة، ويحدثان ما قاما به من جلبة برمي الأرز على النار، وإحداث الحدث الفانتازي في تشكّل الـ«سليق» بصورته المتوحشة، وتفعيل دور الأنميشن في تحفيز الخيال، مستغلًّا هذه المساحة التي يمتاز بها في جذب الشرائح العمرية، وتفاعلها مع الصورة الغرائبية؛ يلعب القط الأليف في المنزل كأحد أفراد الأسرة. وهذا ما يمكن سحبه على الحارة التي فرغت من أهلها، وتغيرت ديموغرافيتها بخروج أهل الحارة الأصليين بوافدين من جنسيات مختلفة، وهذا ما يصنع القطيعة ما بين سيدة المنزل الوحيدة المتمسكة بدارها، واللعب على وحدتها من خلال المكالمة الهاتفية التي أجرتها مع ابنها وحفيدتها، وتعذرهما عن الحضور من جانب، وعدم تواصلها بلغتها التي تعرفها مع أهل الحي من خلال أول موقف لها مع بائع الخضار، وحاجتها إلى بعض المتطلبات لصناعة طبقها دون أن تتمكن من إيصال رسالتها، وكأنها هي الغريبة عن الحي لا العكس، فتحاول الطفلة التي أسمتها «شمس» بإيصال الورقة المكتوبة بحروف عربية للبائع، والرسالة الواضحة من الوالدة بعدم تدخل البنت فيما لا يعنيها بسحبها، وورطة الأم في التواصل مع البائع مباشرة دون لغة مشتركة بينهما، فلا الورقة أجدت نفعًا، ولا كلمتها أيضًا؛ ليخيب ظنها بذهابه ومغادرة المكان دون أن تحصل على ما تريده.

البطولة

المساحة التي يمنحها الستوب موشن تترك فرصة أكبر للفيلم للاختيار ما بين الممثلين، وهذا الفيلم اختار بطولته من العنوان ليمنح هذه البطولة لهذا الطبق، وليكون هو اللاعب الرئيس في الربط ما بين خيوط الفيلم وعناصره، وصناعة الصراع ومنح الحلول، وتوظيف كل عناصر الفيلم ابتداءً من الطائر والخروج بالعشاء الأول لا الأخير، لعلاقة جديدة ما بين الأم الوحيدة والغرباء المشاركين في الحل، وليكون هذا السليق المشكلة والمكافأة في آن، فبينما يقوم كَيدٍ مُرعبةٍ تريد أن تفتك بالبيت والحي؛ تعود مطبطبةً في نهاية المطاف على أكتاف كل المشاركين، ويجمعهم على طاولة واحدة؛ دون أن ننسى تلك المساحة الرائعة في خروجه من المنزل، وليكون فسحة لشمس لتمارس هواية السباحة في أمواجه البيضاء!

ابتدأ السليق من بداية اللقطات الاستهلالية استعدادًا لصناعة هذا الطبق، ولم يكن بهذه الصورة الغرائبية لصناعة الحدث لولا تدخل الطائر السمين واقتحامه المطبخ، وعبثه بالأرز، ولم ينتهِ السليق بأن يكون الكلمة التي تعلمتها شمس لتبدأ رحلة التواصل مع السيدة التي أسمتها المخرجة «السيدة هاجر» بعبارة «سليق.. شكرًا» للتعبير عن امتنانها للسيدة هاجر على هذه الوجبة؛ بينما هي -أي الطفلة «شمس»، من عوّضت السيدة هاجر عن حفيدتها التي طلبت من جدتها السليق في المكالمة وواعدتها بكلمة «حاضر»، وحُرمت رؤية حفيدتها بأعذار واهية من ولدها ممدوح؛ بينما تعبّر المخرجة بمباشرة مقبولة في فيلم سهل، وأُريدَ له أن يكون كذلك، بالتعليل بدور زوجة الابن في حرمان الحفيدة من رؤية الجدة لرغبتها في رؤية إخوتها! فالسليق الذي كان مطلب البنت أصبح بداية العلاقة ببنت بديلة هي شمس، وبعقاب في نهاية المطاف بسقوطه على رأس الطائر السمين البشع الذي تسبب بكل المشكلات والحلول من حيث لا تعلم السيدة هاجر، ولا الطائر، ولا حتى القط الذي قدره أن يكون نباتيًّا في هذا الفيلم ؛ ليأكل طبق السليق دون دجاج.

البياض

طبق السليق أبيض اللون ببياض الأرز عند طهيه، ويمتاز بالليونة والتماسك، ويزداد «السليق» مزية عن طبق الأرز المعتاد باقتراب الحبة من جارتها وامتزاجها حدَّ التلاصق والتماهي، وهذا ما يحدث في مدينة جدة والمدن الكوزموبوليتانية التي تضم عددًا من الشعوب والثقافات في مكان واحد؛ لما تمتاز به جدة بوصفها ميناءً من جانب، ولأنها محطة استقبال الحجاج من كل مكان، وجاء الفيلم من خلال الحي باحتواء عدد من الأعراق والألسن، وزاد بدخول الطفلة شمس وأمها وجارتهما إلى بيت السيدة هاجر من أجل مساعدتها في السيطرة على «السليق»، وتمثيل التبادل الثقافي والمعرفي في صور بسيطة تتمثل في تقطيع الخيار «مربعات» تحديدًا، واستخدام آلة المزج بيسر، وسحب ذلك على ما هو أكبر من ذلك، فكفى ببياض السليق لوحة يمكن أن تصف بها التوافق بين الجيران والأصحاب في الأماكن المتجاورة والتعايش في أبهى صوره، والتفوق في المطبخ الحجازي بتنوع الأعراق، وما السليق إلا صورة واحدة تختصر كل الصور، وحسبه أن كان بداية لنطق اسمه مرافقًا لكلمة عربية «شكرًا» مهادًا لانخراط جيل وأجيال ممن عاشوا على هذه الأرض، وامتزجوا بعاداتها وتقاليدها، وتكلموا بلسانها.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى