كُتاب الترند العربي

المساحات القوطية والوحشية ومرشحات الظلام

تغريد العتيبي

سواء كانت قلعةً مريبةً على قمة تلٍّ في منتصف ليلٍ عاصف، أو أمواجًا هائجة وظلامًا دامسًا يعتصر باخرة مخروقة، أو جبالًا شاهقة محفوفة بالضباب وفي باطنها خفافيش وكهوف، تتعدى جماليات القوطية كنمط، لتغطي مساحات عدة متخطية إلى المدنية والحداثة. فنرى ذلك المرشح في المختبرات السرية في جزرٍ نائية إلى مصانع أسلحة تحت الأرض، إلى مستشفيات مريبة و”مهجورة”، إلى الأنفاق المظلمة والعيون المراقبة وغرف الفنادق المسكونة وطرق السفر “اللا منتهية”. فهي هنا مرشح يضاف ﻷي مساحة في أي زمان ومكان لتحويلها من مساحة أمان وسلام وكل المفاهيم التي تتبعها إلى مساحة وحشية مهددة بخطر أو حس الخطر، حتى لو لم يسكنها أي كائن قوطي كالأشباح أو مصاصي الدماء وغيرهم. العبرة أن المكان أصبح مساحة تُقرأ نقديًّا على ما جعلها تتحول إلى ذاك الحال الذي جعلها بيئة خصبة لاستحضار الأرواح والوحوش والآلام وغيرها. هذا التصوير أو التحول قد يكون مُجسَّدًا مثلًا في الكتابات والأفلام التي تغير زوايا التصوير والإضاءة والمرشحات والأصوات في غرفة طفل كانت آمنة، إلى مساحة وحشية بعد تعرضه لعنف أسري. لكن هناك أعمالًا قد لا توفر تلك التحولات والشروحات، بل تبدأ بمساحات وحشية تجمع بدائية الماضي والقوطية مع مفاهيم الحداثة في المساحات العصرية، كالمستشفيات أو الأبراج الشاهقة أو محطات الفضاء المنعزلة وغيرها. فهي هنا تستطيع الاستغناء عن الكائنات القوطية والاكتفاء بالمساحة الوحشية كعنصر رعب، وهو أسلوب فعال اتخذته الواقعية للابتعاد عن مبالغات القوطية في تصوير خوارق الطبيعة. تلك المساحات إذن أصبحت تُقرأ على أنها ذات دلالات نقدية نتاج السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي “كوّنتها”.

فمختبرات فرانكشتاين في رواية ماري شيلي الشهيرة “فرانكشتاين: أو بروميثيوس الحديث” عام 1818 قد صورت التنبؤ بمخاطر الكهرباء كاختراع حديث ذي مستقبل يتعدى مفاهيم المنطق في ذاك الوقت، ما جعل منه عنصرًا مريبًا محولًا المساحة السرية كمختبر فرانكشتاين إلى مساحة رعب التي كونت وحش فرانكشتاين، وبثت في الأشلاء المجمعة من جثث عدة الحياة بشكل مشوّه. ومثلها قد تتحول المساحات الطبيعة بفعل تأثير البشر في استهلاك عناصرها وابتزازها، ما خلق القراءات القوطية البيئية المعنية بنظريات البيئة، وتفاعل الإنسان معها مثل الرواية الشهيرة «جزيرة الدكتور موريو» من قبل الكاتب إتش جي ويلز عام 1896.

نرى تلك المساحات الحديثة المتنبئة بخطر الإنسان كمنتج للوحوش تتعدى للكثير من الروايات القوطية في العصر الفكتوري والتي تحول أغلبها إلى عدة أفلام وأعمال شهيرة. فهي تنم عن تأطير ذلك العصر لمخاوفه التي تنبأت بالحداثة والتفكك الفكري وانفجار الاختراعات والثروات الصناعية وبزوغ فجر السينما واجتياح الحروب العالمية للخارطة. فما إذا كان مصنع فرانكشتاين للكهرباء مساحة وحشية وخطرة في الوقت المعاصر هي تلك المصانع التي تعنى بالاستنساخ والذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها، متخطية إلى الفضاء وتلك التصويرات لأبعد مساحة قد يظن البشر بوحشيتها ورهبتها الظلامية كالثقوب السوداء.

تجسد أغلب تلك التصويرات للمساحات الوحشية شبحَ الماضي والبدائية الذي اقتحم رمزيات الحداثة ليحوّلها إلى “قوطية”؛ ما جعل القوطية تبتعد كل البعد عن التعريفات الكلاسيكية في كونها مجرد قلاع وأسياد ومصاصي دماء؛ فهي هنا أطباء وعلماء ومخترعون. من خلال تلك المرشحات ألقت القوطية منظورًا نقديًا على أخلاقيات الحداثة والبشرية في ظل التقدم الهائل في الاكتشافات والاختراعات متداخلة هنا مع النظريات الأخلاقية في تشكيل ماهية تلك المساحات ولماذا قد أصبحت قوطية. فقد برزت تلك المسائل في تصوير المصحات النفسية غالبًا، ولماذا قد أصبحت أماكن خطر وخوف ورعب، عوضًا عن مصادر أمان وسلام لمحتاجيها، لنرى أن ذلك يعود غالبًا إلى تراكمات الأفعال البشرية من عنف وقمع وسيطرة وتجارب غير أخلاقية وتعدّي قوانين؛ ما جعل العنصر البشري هو العنصر الوحشي الذي سكن تلك الأماكن وساقها إلى الظلام. وقد تتعدّى تلك الصور إلى نماذج العزلة في مساحات دور كبار السن مجسدة وحشية الفقد والنسيان والصمت والوقت الذي لا يكاد يمضي.

لكن بالتزامن مع الحداثة، فالمساحة الوحشية تحولت من تصوير حرفي إلى تصوير مساحات خيالية في أذهان الشخصيات، أو حتى في تجسيد وحشية الشبكة العنكبوتية من ربط شخوص مجهولة مع كائنٍ مَن يكن، وإتاحة الفرصة لتعدي الأخلاقيات والقوانين كالابتزاز والاستغلال وغيرهما من أسرار الويب. فوحشية تلك المساحات الافتراضية تكمن في شبح الأقنعة في تكوين هُويات “افتراضية” مُوهمةً الشخص بالحرية المطلقة منها، يخط ويجسد “الوجه الحقيقي” المغاير عن مثالية وتوقعات المجتمع. لتأخذنا مرة أخرى إلى التساؤل عن من خلق تلك المحتويات المريبة، ومَن حوَّل تلك المساحات الافتراضية إلى وحشية، إنما «وحوش» بأقنعة بشر، كما يجسّد تلك الروح الظلامية للتقنية المسلسلُ التلفزيوني الشهير «مرآة سوداء».

لذلك تصوير المساحات والأماكن سواء حرفية أو مجازية أو افتراضية بمرشحات ظلامية وقوطية ليس بالعبث فقط، أو مجرد خلفيات للشخصيات أو الأحداث، إنما عناصر تقرأ نقديًّا في حد ذاتها، سواء كانت من قبل نظريات البيئة أو الجدليات الأخلاقية أو الهويات أو القضايا السياسية أو الاجتماعية. وهذا أيضًا ينبه على أهمية القوطية كأسلوب، وليست صنفًا أدبيًّا فقط، فقد تتواجد في أعمال الخيال العلمي، كما تصور مساحات الواقعية الظلامية وغيرها.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى