كُتاب الترند العربي

“تلفاز 11”.. والدخول من النافذة

د. محمد البشير

قبل أكثر من عشر سنوات، يوم أن كان اليوتيوب السينما الاضطرارية للسعوديين، انطلق تلفاز 11 ببرامجه التي كانت متنفسًا للشباب صُنّاعًا ومشاهدين، وحصد جماهيرية عالية باقترابه اقتراب المحب من الجمهور، فهو منهم ويعرفهم، لذلك وقف في المنتصف متجاوزًا قابلية البرامج التقليدية التي يُقدمها التلفاز آنذاك، وغير قادر بالتأكيد إلى ما يطمح إليه من تقديم فيلم سينمائي يتم عرضه في صالات السينما الغائبة، فهو يدرك أن ما يُقدّمه “فليم يا غليم”، ولكنه الوسيلة التي يمتلكها، ويمّهد بها لما بعدها مُدركًا أن العملية اليوتيوبية ضرورة، فـ”ما لا يدرك كلّه؛ لا يُترك جُلّه”، فإن كان لا يستطيع العبور من النافذة، فلا أقل من وقفة تشبه وقفة أنطونيو خلف نافذة كليوباترا عندما علم بانتحارها، فكل ما يقوم به تلفاز 11 ضربًا من الوقوف، ومحاولة لتقييم ما لا يُمكن مشاهدته في دور السينما في الخلاط الكهربائي اليوتيوبي؛ ليكون سائلًا قادرًا على التسرب والوصول إلى المشاهدين، بمدة قصيرة، ومادة يسيرة.

الانطلاقة

ابتدأت سلسلة الخلاط عام 2017، وكانت مادة جاذبة، ومحفزة على المشاهدة بمواصفات تقديمها، وبأبطالها المتنوعين في أدوارهم مثل: إبراهيم الخيرالله، وعلي الكلثمي، ومحمد الدوخي، وزياد العمري، وعبد العزيز الشهري، وإبراهيم الحجاج، والكثير الكثير من المبدعين، وحصدت مشاهدات عالية تجاوزت العشرين مليون مشاهدة، وكانت بمثابة الدورات التدريبية للجميع تمهيدًا لما سيأتي حتمًا، وذلك باسكتشات قصيرة لا تتجاوز في مجموعها الثُلث أو النصف ساعة؛ لتصل إلى 22 حلقة كفيلة بالجاهزية لمرحلة منصات البث.

تنويع الأعمال

استطاع “تلفاز 11” مخاطبة شرائح متعددة بوسائط مختلفة، فاستثمر المهرجانات المحلية والعربية والعالمية، وافتتاح دور السينما ومنصات المشاهدة، وغيرها، وخطَّط لاستهداف الوصول إلى الجميع، ولا أدل من نجاحه في فيلم “أغنية الغراب” لمحمد السلمان واختياره ممثلًا للأفلام السعودية لجائزة الأوسكار، ووصول فيلمي “ناقة” لمشعل الجاسر، و”مندوب الليل” لعلي الكلثمي لمهرجان تورنتو الدولي، وتصدر فيلم “سطار” لأعلى الأفلام السعودية مبيعًا في شُبّاك التذاكر، والانطلاقة قبل ذلك كله صوب نتفليكس بعد توقيع الاتفاقية معها بستة أفلام قصيرة شكّلت “ستة شبابيك في الصحراء”، ووصول «فيلم الخلاط+» إلى قائمة الأعلى مشاهدة في السعودية على منصة نتفليكس.

الزجاج

تمكن تلفاز 11 من إحراز هذه النجاحات باقترابه ممن حوله، فالمحتوى بصبغة محلية كما هو شعارهم، وبجاذبية عالمية، فالمبدعون يتمتعون بثقافة سينمائية ومشاهدات عالية، ومحاولة تقديم منتج محلي بفضل هذه الثقافة، فالمادة من حياة الناس، ومن المسكوت عنه أحيانًا، أو المتورع عن إظهاره. وهذه القصص التي نمتلكها لا يمتلكها غيرنا، وحريّ بها أن تظهر لنا أولًا لمشاهدتها، وللعالم من حولنا؛ لمشاهدة ما لم يروه من قبل، فما دام الزجاج يشفّ، فلماذا لا نحاول العبور؟

الكاميرا

الكاميرا عدسة تلفاز 11 السحرية، وهي القلم الحقيقي الذي يوثّق به ما يجري من حولنا، ويجدر به أن يظهر ويُشاهد ويُرى، فالكاميرا/القلم -وفقًا لرؤية الناقد والمخرج الفرنسي ألكسندر ستروك منذ عام 1948- أصبحت أكثر حضورًا بوصفها قلمًا في هذا العصر الذي أتاح للكثير التوثيق والتعبير بالكاميرا. في فيلم الخلاط+ من إخراج فهد العماري في تجربته الأولى لصناعة فيلم طويل، كانت رسالته الأولى للمشاهد واضحة بعدم التبدل، وذلك عندما انطلقت الصورة من أعلى المنزل، مقتربة منه، وقافزة لسوره، ومتجاوزة الشجرة، ومعتلية السطح، نحو النافذة التي أظهرت معضلة الحلقة برغبة تركي “منصور آش” الذي يقوم بدور أخ العروس، ومعضلته أنه يريد تدخين سيجارة بكل بساطة، وتبدأ رحلته؛ لتقطع أخته محاولته الفاشلة بسؤالها، ودخول الكاميرا إلى الغرفة عبر النافذة، ومطاردتها لما يحدث بلقطة واحدة، متنقلة من غرفة إلى أخرى، ومصورة ما يجري في ليلة عرس محتشدة بالأحداث، وبرغبة لا تكتمل لأخ العروس الذي لا يجد مكانًا في المنزل، فيلجأ إلى سيارته، لينتقل ملعب المطاردة من المنزل إلى الشارع إلى قاعة الأفراح في رحلة لا تجدها إلا في عرس سعودي.

الخصوصية

ما نقلته الكاميرا في الخلاط من خشية الابن من التدخين أمام والده أو أهله هي من أقرب الخصائص السعودية والخليجية والعربية منتقلة للضيق إلى السعة كلما ازداد قطر الدائرة، وتزداد وضوحًا بالتركيز على الدائرة الصغيرة المتمثلة في حالة “تركي” في المشهد الأخير، من المفارقة في أبلغ تجلياتها، من تحرّج الطرفين “الأب/الابن” من ممارسة سلوك التدخين أمام بعضهما، وإظهار العرس السعودي ما بين فصل الجنسين “النساء/الرجال”، وما يحدث في جانب الرجال، وضياع المتطفلين ما بين المدعوين من أقارب العروس والعريس، ولعب الأطفال بضب في يد أحدهم، وترهيب الصغار بمزاح ثقيل، فماذا لو دخل ضب إلى صالة النساء؟

تقف الكاميرا عاجزة عن اختراق جانب النساء، وبدلالة أكثر تعبيرًا عن هذا الامتناع عن الاختراق، والاكتفاء بما يحدث عند الرجال، والشهامة التي يبذلها الرجل في مثل هذا الموقف، بإنقاذ الموقف، وإخراج الضب.

هذه الخصائص من الرجولة بما فيها دعوة الحرامي “فهد البتيري” للعشاء معهم في صالة العرس، هذا ما يميز العلاقة المعقدة في تعامل السعودي حتى مع من يختلف معه، وأضف إلى ذلك من الخصائص الفقهية والقانونية من مناقشة قطع اليد لمن سَرَق من عدمه، وما بين تقييد السارق، وخطفه، وطلاق الزوجة في القَسَم على دعوة ضابط الشرطة؛ لتناول وجبة العشاء معهم، وإظهار صورة الكرم في أقرب صورها الملازمة للمجتمع السعودي.

القصص

كعادة الخلاط في صورته الأولى عبر اليوتيوب بصنعه “سكتشات” متنوعة فيما يقارب الثلاثين دقيقة، وزيادة المادة في النسخة المطورة الخلاط+ المقدمة لنتفليكس بتخصيص ثلاثين دقيقة للسكتش الواحد، وزيادة المساحة لكل سكتش بما يوازي ما سبق مجتمعة. وهكذا تمتد المساحة برابط يجمع فيما بينها بتقديم الوشائج ما بين عروس في لية عرسها وما يحدث خلف ذلك في السكتش الأول بدخول لصوص الكفرات في اللعبة، وعلاقة زوج وزوجته بدعوة مدبرة من ابنتهما، وما يمكن حدوثه بينهما من دخول مطعم فاخر يفوق تجربتهما في السكتش الثاني، وما تفعله زوجة بعد وفاة زوجها الوفي، واكتشاف ما يخفيه في السكتش الثالث، أو ما يمكن أن تواجهه عائلة سعودية في سفرها خارج وطنهم، وما يحدث لمن تلقى دعوة مبيت في فندق فاخر يضم ملهًا ليليًّا، واصطدام الأب والابن في السكتش الرابع والأخير.

الشخصيات

ينتصر تلفاز 11 والخلاط في هذه التجربة بالشخصيات التي نبصرها حولنا، والاقتراب من الناس بتفاصيلهم، فكل ممثل يلبس دوره دون تعمدٍ لمزيد تفاصيل، ولا أدل من صورة الزوجة في السكتش الثاني التي لم تخلع عباءتها، ولم يتطلب الأمر أن تخلعها، فهي تمثل دورها وصورتها في لباس عباءة في مطعم فاخر، وصُنع تجربة لها ولزوجها بأيدي ابنتهم التي تعيش زمنها بكشف وجهها في مطعم؛ بينما الأم تعيش عصرها ومحافظتها على نقابها، وهذا ما يميز الخلاط وفريق تلفاز 11 بتجسيد الشخصيات، والعناية بأدق التفاصيل في شخصية الأب “محمد الدوخي” بثوبه، وسعة رقبته، وشماغه غير المكوي جيدًا، وحذائه الذي يخلعه، ويضع قدمه عليه، ومحاولته التجاوز في مد يده لزوجته في المطعم دون أن تمررها له، فهذه التفاصيل الدقيقة في الشخصية هي ما يطلبها المشاهد الذي لم يألف ذلك في هذا الزمان والمكان، ولكنه يتذكره جيدًا، بينما لن يجده في تجربة أخرى ما دامت خاصة لا يستطيع كشفها ومعرفتها سوى من اقتراب من المجتمع، وأبصر تفاصيل هذه الصورة، واستطاع أن يعبر من النافذة؛ ليدون بكاميرته ما لم نره من قبل.

الجمهور

يروي أيمن أبو الروس في كتابه “كليوباترا ملكة مصر الحسناء التي خضع أمامها حكام روما الأقوياء” رواية غير التي نعرفها عند شكسبير، فيقول عندما أُحكم غلق الأبواب على كليوباترا؛ قامت بمعونة وصيفتيها بإنزال حبال قوية من نافذة بالدور العلوي، وقام الجنود بربط جسد أنطونيو بها، ورفعوه لأعلى على سقالة بمساعدة الوصيفتين حتى تمكن من الدخول عبر النافذة، وقد قيل إن كليوباترا هي التي أمرت بنقل أنطونيو إلى داخل غرفتها، وهكذا المشاهد في تلهفه، وترقبه لما يصدر عن تلفاز 11، وعقده الأمل على كثير من أعمالهم، فهل هو من أدخلهم من نافذته؟ أم أن العماري من تسلل؟ لا فرق ما دام الرهان قائمًا على من سيشاهد، وازداد صعوبة بشباك التذاكر، فالجمهور لم يخذلهم في مشاهداته من قبل ومن بعد، ولن يخذلوهم فيما سيقدمون، وإن كان الرهان أشد صعوبة بتغير الوسيط؛ غير أن الثقة بهم كبيرة.. كبيرة جدًّا.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى