“القوطية” كنمط جمالي في الكتابات الإبداعية وغير الإبداعية
تغريد العتيبي
لم تتوقف القوطية على كونها أسلوبًا أدبيًّا بل تخطت ذلك، لتصبح نمطًا جماليًّا يرتسم في لوحات فنية وثقافية، تتمثل في أزياء وموسيقى وفلسفة خاصة. لكن ما يُعنى هنا هو تعدي القوطية لحدود تلك الأصناف الأدبية، لتعتمد عليها الواقعية مثلًا في سرديات الأحلام والكوابيس، وتجسيد رعب الحروب، وتمثيل الصدمات، وتعتمد عليها السريالية في الإلهام الظلامي من الرهبة القوطية. فالأعمال هنا ليست قوطية البتة ولكنها احتوت تلك العناصر، فتغللت فيها جماليات ونمطيات القوطية المعتادة كصنف أدبي، وهذا ما يجعل تصنيف بعض الأعمال أمرًا معقدًا، تتداخل العناصر الأدبية فيه.
مثلًا الروائي الشهير شارلز ديكنز في روايات كلاسيكية عدة، مثل: “أوليفر تويست”، و”ديفيد كوبرفيلد”، و”كريسماس كارول” “ترانيم عيد الميلاد”، و”حكاية المدينتين”، قد خط آلام المجتمعات والأطفال ومآسيهم في روايات واقعية تغزوها أشباح الماضي الأليم والحاضر القاسي، لنرى أن جميع تلك الأعمال المؤثرة تحمل روح القوطية في التعبير والتصوير، عوضًا عن الواقعية البحتة. فكل تلك الصدمات والأسى كتبت نصًّا إذا اعتمد على تصوير خيالي فهو يعود للقوطية كنمط جمالي يستقي من سوداويته ليصف تلك الآلام.
على غرار ذلك نرى القوطية كعنصر، تتسرب حتى للنصوص غير الإبداعية، مثلًا البيوغرافيا الذاتية التي كُتِبت من قبل مؤلّفيها، كنص الروائية العربية العريقة رضوى عاشور “أطياف”، فقد حوت على بعضٍ من تلك العناصر لسرد تلك الأطياف من الطفولة، في غضون ما عاصرته في مصر والوطن العربي من ثورات وآثار استعمار وحروب، كأفكار ومواضيع تعدّت إلى أعمالها الأخرى كـما في «الطنطورية» و«قطعة من أوروبا». ونرى ذلك الصدى يتكرر في كتابات دورسي ليسنغ عن طفولتها في الحروب، معتمدة أيضًا على تصويرات القوطية في أعمالها الأخرى التي تحاكي الواقع تحت مظلة البيوغرافيا، لترسم مآسي أطفال العنف والإرهاب والعبودية.
وهنا تظهر القوطية كعنصر مهمّ أيضًا في التصوير الشعري مثل شعر المقابر في الحركة الرومانسية، وشعر أدب المهجر والشتات، فهي الصوت الفعّال للبوح عن تلك الأسرار، والصدمات النفسية، والوسيلة الأدبية في استرجاع ذكريات أليمة ومحاولة تصويرها بعيدًا عن عالَم الكوابيس التي تشوبها وتغلغلت فيها، لتصبح من تكوينها.
لعلَّ أبرز مثال في الأعمال غير الإبداعية التي استوحت صوت القوطية في التعبير والتصوير هي شروحات وكتابات وتشخيصات فرويد لعديد من الحالات النفسية والأمراض والعُقد الشخصية معتمدًا كليًّا على مفاهيم قوطية لتجسيد ذبذبة وووحشية كثير من تلك الحالات، كحالة «الرجل-الذئب»، ومفهوم الغرابة الذي خط بتمثيل وحوش قد يألفها الوعي والازدواجية ما بين الذات والآخر والأناة، وما يسبقها من بدائية، وما يعلوها من الأناة العليا. لعل أبرز ما قدم فرويد للقوطية أيضًا هو شروحاته في مفهوم عودة الكوابيس والأحلام الدفينة بعيدًا في اللاوعي في شكل صورة معكوسة أو مشوهة من الواقع والتجارب. من هنا أيضًا استقت القوطية مفاهيمَ وقيمةً نقديةً واسعةً، بحيث تم الاعتماد على نظريات التحليل النفسي لفرويد لتفسير الأعمال القوطية آنذاك، وما زالت الينبوع لقواميس النقد القوطي الأولية، فمثلًا فرويد كتب مرات عدة عن مفهوم «عودة المكبوت» شارحًا ذلك بالاعتماد على الأعمال القوطية ونظرياته النفسية. فهذا المفهوم لا يكاد ينفصل عن تعريفات القوطية بشكل عام؛ فالقوطية في الوقت المعاصر مختزلة في بوح وعودة لما لا يجب أن يذاع ويعود.
ويتعدى ذلك إلى نظريات ومحاضرات لاكان في الشخصية والهُوية وغيره، التي دعمت عديدًا من الدراسات النقدية القوطية في أدب مصاصي الدماء كنظريات الانعكاسات في المرآة وتكوين الذات في الطفولة أو «عدمها»، كمصاص دماء لا انعكاس له. ويتخطى ذلك إلى الناقدة العريقة جوليا كريستڤا في خلق ما أصبحت قواميس نقدية للقوطية لاحقًا خصوصًا في «الذوق» ومفاهيم الاشمئزاز والرعب المجسد والبشاعة وغيره. ليتضح مدى تأثير وفعالية القوطية كنمط جمالي سواء في التعبير عن صدمات أو شرح تلك الآلام وسوداوية تلك الصدمات. وتبرز القوطية أيضا كالأدب الذي اعتمد جوديث بتلر عليه في تنظير الهويات ودراسات الجندر.
كل ذلك قد دعم القوطية في كونها أسلوبًا وليست صنفًا أدبيًّا محدودًا نوعًا ما في منتجاته، بل ثقافة وفلسفة ونقد متعدٍّ لأصناف عديدة، سواء كانت نصوصًا إبداعية كالأدب الواقعي والشعر الرومانسي وأدب المهجر، أو غير إبداعية كالبيوغرافيا الذاتية ونصوص التحليل النفسي، وشروحات العقد الشخصية، ونظريات الهوية والجندر، والاستعمار وماهية الشر.
لذلك ظهرت أعمال يصعب تصنيفها في قوالب منفصلة فاتخذت أصنافًا مركّبة مثل صنف «الرومانسية المظلمة» في الروايات الأدبية، وهو ما ينتهج تصوير الرومانسية للذات والطبيعة، لكن يأخذ منحًى ظلاميًّا أقرب إلى القوطية لكن مبتعدًا عن خرقها المبالغ للطبيعة والكوميديا المظلمة أو السوداء. فتلك أصناف ليست قوطية في جوهرها، بل استدعت القوطية للتعبير عن حياة وموت وأحلام وكوابيس وغيرها من الوجوديات والأشياء خارج حدود المنطق والعقل، وللتعبير عن الخوف والرهبة والاشمئزاز والبشاعة والوحشية، والشر والصدمات النفسية، والحروب والذات والآخر. فمن غير القوطية يحتوي كل تلك المتغيرات في تجسيدات يسهل استدعاؤها رغم بشاعتها كوحوش وأشباح لتفي بغرض تلك المعاني.
المصدر: سوليوود