آراء

“حتى إشعار آخر”.. “رادار” في الانتظار

د. أشرف راجح

“في اعتقادي أنه لو قدم أيّ مخرج فلسطيني فيلمًا عن قصة حب مشوقة وكان الفيلم ناجحًا على مستوى عالمي، فهذا فيه مردود سياسي كبير لفلسطين، ويشكل مقاومة جمالية ضد بشاعة الاحتلال، ويؤكد في الوقت نفسه أننا شعب ولنا ما لكل الشعوب من تصورات وحقوق وإمكانات وأحلام، ولدينا طرح إنساني ليست له علاقة بالحالة الآنية التي نعيشها قسراً. بالتالي يحق لنا مثل كل البشر أن تكون لنا دولة وكيان مستقل. لا يجب أن نختصر الكائن الفلسطيني في قضية صراعه مع العدو الإسرائيلي وإلا نزعنا عنه إنسانيته”.

هكذا تحدث المخرج الفلسطيني الكبير رشيد مشهراوي الذي تظل أيقونته “حتى إشعار آخر”، فيلمه الروائي الطويل الأول الذي قدمه عام 1993، تشع وتصلح لإعادة مشاهدتها مرارًا وتكرارًا مع كل حصار جائر أو عدوان غاشم على الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه، أو ما تبقى منها حتى إشعار آخر.

حاز الفيلم على جائزة الأنتيجون الذهبية من مهرجان “مونبيليه” بفرنسا لدول البحر الأبيض المتوسط، والهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السابع عشر لأفضل فيلم عربي، وبعدها عرض في مهرجان “كان” السينمائي وحاز أيضًا تقدير الجمهور والنقاد. وتدور أحداثه في مدينة غزة، حول يوم في حياة عائلة فلسطينية أثناء فرض حظر التجوال من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة عام 1993، عندما تتحول البيوت في مخيم “الشاطئ” إلى معتقلات صغيرة ينسجم بين جدرانها نسيج حي من العلاقات داخل الأسر التي تحيا في ظرف مستحيل، يحتاج إلى درجة عالية من التكافل الاجتماعي داخل الحي، وخلال الشهور الأخيرة من عمر الانتفاضة التي انطلقت عام 1987، وكللت بتوقيع اتفاق غزة أريحا للحكم الذاتي عام 1994، أو “سلام الشجعان” كما أسماه القائد الراحل “أبو عمار”، الذي لم يجد غير الجبناء والطامعين لإنفاذه، تعبيرًا عن مقولة مشهراوي: “للأسف هناك مجموعات وأحزاب تريد أن تدهن كل البلدان بلون واحد، وترى أن الذي ليس معها هو ضدها وتحاول تحقيق غايتها عبر الادعاءات وسلطة الدين وقوة السلطة والمال”، مردفًا في موقع آخر: “لا بد من قبول الآخر رغم الاختلاف والفروقات وهذا ما يجعلنا متحدين وأقوياء ونكون مجتمعًا راقيًا وديمقراطيًا متعدد الألوان والأفكار والرؤى، وهذا ما يقوينا فلسطينيين وعربًا”.

الفيلم يركز حول أسرة “أبو راجي” الحلاق شبه المعاق، حيث يعاني من آلام مبرحة في الظهر، وكأنه ميراث النكبات التي مرت على هذا الشعب الأبي، يعيش في أحد مخيمات غزة مع عائلته المكونة من زوجته وخمسة أبناء. في البيت نتعرف على «راجي» الابن الأكبر المتزوج والمثقل بهموم البطالة، كحالة خمسين بالمئة من سكان القطاع، كلما أوغل الاحتلال العنصري القائم على إدارة الحياة في البطش وقطع الأرزاق. ويقدم الفيلم أيضًا شخصية “أكرم” الشاب الذي يبدو حاد الطباع، ولكن يمكن أن يدرك المشاهد ضلوعه في أعمال مقاومة الاحتلال، على الأقل من خلال الحقيبة التي يخفيها تحت سريره.

ولكن أهمهم بالطبع في مسار أحداث الفيلم يأتي الفتى الصغير المسمى «رادار»، إنه «عصفور السطح» المغرد الذي يلعب دور الرادار الحقيقي، إذ إنه هو من يراقب حركة الجند، وينقل الرسائل بين الأسر المحاصرة، ويتسلق الجدران، ويعتلي الأسطح، ويعرف كل أنواع الطلقات من صوتها، ويتمم المهمات السرية المطلوبة منه. يتسلَّم الفتى رادار في بداية الفيلم رسالة من أخيه الكبير الذي يدرس في ألمانيا، وتتعثر محاولاته قراءة رسالة أخيه التي أرسلها للأسرة، مرة تلو المرة، بحيث تتحول تلك الرسالة من خلال أحداث الفيلم إلى رمز واضح لهذا التواصل المفقود مع الغائب، وكذلك مع عالم الحرية التي ينعم به البشر «العاديون» بعيدًا عن وطأة المحتل الصهيوني، وتبدو وكأنها نافذة لعالم الخلاص من هذا الاحتلال العنصري، والشروع في بناء مستقبل مشرق يقوم على العلم والعمل. كما تغدو الرسالة بتكرار محاولات قراءتها، وهي لن تكتمل إلا مع نهاية الفيلم بعد حصول الكثير من الأحداث والملابسات، كأحد رموز هذا الإصرار والاستمرار والدأب والتحدي الذي يحمله الشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل.

يقول رشيد مشهراوي إن: “الأفلام الفلسطينية فيها لغة سينمائية وبحث جمالي وتعبير مهم. السينمائي الفلسطيني يختلف في وضعه وتطلعاته عن السينمائيين الآخرين. أن تكون فلسطينيًا، كما أكرر دائمًا، فأنت صاحب قضية عادلة وبلدك واقع تحت الاحتلال وهذا يقدم لك فرصة أن تكون سينمائيًا جيدًا من طراز خاص، وحين تكون سينمائيًا جيدًا بالمعنى الجمالي للكلمة فهذا يمكنك من أن تقدم فنًا يخدم قضيتك العادلة”، فهو يؤكد على حقيقة هامة هي أن: «الفن يحفز على تثبيت الثقافة والهوية وتثبيت الجذور في الأرض».

مرت ثلاثون عامًا منذ قدم هذا الفيلم الجميل المؤلم وما زلنا في حصار… ثلاثون عامًا في الانتظار، ونحن إذا افترضنا أن الفتى “رادار” شخصًا من لحم ودم، وكان اليوم ما زال حيًا، لكان رجلاً قد جاوز الأربعين، ما زالت تسقط على رأسه الأهوال من كل جانب… الشعوب قدمت ما تستطيع، وقاطعت… الحكام عملوا ما عليهم، وشجبوا… الغرب فعل ما عليه فساند الاحتلال سرًا أو جهرًا، وندد بحجم الضحايا من الطرفين… الصهاينة فعلوا ما يجيدونه من إسراف في البطش والدمار والقتل… الفلسطينيون عملوا المطلوب منهم فقاوموا واستشهدوا…

وما زال الجرح مفتوحًا… ومع المذابح الأخيرة التي حركت ضمائر العالم شرقًا وغربًا في زمن وسائل التواصل الاجتماعي التي جاءت كـ”رادار” كاشف نشهد به القتل اللحظي بوحشية مجنونة، انفجر من جديد السؤال الحارق المستمر الذي يجعل أي إنسان حقيقي يكتوي بناره: يا شعوب الأرض… يا بني الإنسان… متى يكون للشعب الفلسطيني دولته على أرضه مثلكم؟!

وفي النهاية تبقى القضية الفلسطينية ذاتها “رادارًا” يرصد كل من يمتلك بعض الإحساس الإنساني بالآخر، وهو محاصر ينتظر حتى إشعار آخر، ينبئ ببزوغ عالم مغاير يتحقق به الحد الأدنى من قيم الحرية والعدالة والمساواة والإخاء الإنساني.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى