“فوتو كبي” معضلة التناهي وحتمية الانقراض!
عبدالله الزيد
في زمن لا يمكن الجزم بتحديده، كان “العم محمود” يجلس مستسلمًا أو ربَّما عاجزًا عن الإجابة عن سيل من الأسئلة؛ لما يبدو أنها مقابلة عمل في المشهد الافتتاحي لفيلم “فوتو كوبي” للمخرج تامر عشري، والحائز على نجمة مهرجان الجونة السينمائي، لنسمع بعدها صوت العم محمود الداخلي مخلوطًا بقهقهة ساخرة على أحد أسئلة مقابلة العمل الفاشلة تلك:
“أنت شايف نفسك فين بعد خمس سنين؟”
بينما الشاشة تُظهر لنا لوحة تشير إلى اتجاهٍ إجباري نحو ميدان «عبده باشا» الشهير في حي العباسية بالقاهرة حيث دكان العم “محمود فوتو كبي” العتيق ينزوي خجلاً في حي تجاري حديث! وكان أبرز ما بقي في ذاكرتي بعد نهاية رحلة الفيلم الناعمة هي حكاية “العم محمود” الذي قام بأداء دوره الممثل “محمود حميدة”؛ إذ أدخلنا مؤلفه هيثم دبور إلى بؤرة الصراع من خلال طباعة العم محمود لمذكرة بحثية لأحد زبائنه عن سبب انقراض الديناصورات!
أحداث الفيلم لم تُجبنا عن هذا السؤال العلمي، إنما فضَّل صنَّاعه أن ينقلونا إلى حالة من الصراع حول ثنائية الخلود والموت، والمتناهي والأبدي. وهنا تحضرني أفكار للفيلسوف الدنماركي الشهير “سورين كيركجارد” عن الحقيقة العلمية والحقيقة الإنسانية!.. بالنسبة لـ«كيركجارد» الحقيقة العلمية يمكن أن تجيبنا بسهولة عن سبب انقراض الديناصورات، بينما لا يمكنها أن تجيبنا عن سبب انهيار حياة أبطال الفيلم؛ فهي حالة نسبية كأي حقيقة إنسانية لا يمكن الإمساك بها والإجابة عنها بسهولة ويقينية علمية! لأن الإنسان يملك الوعي، وتحكمه الإرادة، وتقوده الرغبة في الفعل، وكلها متغيرات لا يمكن ضبطها بسهولة.
ضمن أحداث الفيلم كان العجوز الأعزب “محمود فوتو كبي” يتكور باستسلام أمام دكانه القديم في كل شيء حتى في لوحته المكتوبة بخط اليد، وذلك بجوار محل جاره الشاب الذي يقدم خدمات الألعاب الإلكترونية والإنترنت بلوحته الحديثة والمكتوبة بحروف لاتينية. وهنا يتعرض العم محمود لمجموعة من الضغوط من مالك العمارة الذي يضغط بقلة أدب لتحصيل المال بهدف تغيير دِهان واجهتها القديمة، وأيضًا جاره الشاب اللطيف الذي يريد أن يشتري المحل من العم محمود ليتوسع في تجارته الحديثة، وقريبته التي تريد أن تهاجر إلى أستراليا نحو حياة جديدة وتتركه وحيدًا! حالات من الحقائق الواقعية المادية الآنية التي يقف فيها مارد الزمن في وجه “محمود فوتو كبي” ويُحكِم قبضته على خناقه حتى يكاد يفقده الحياة.
شيء واحد كان مثل الضوء في نفق حياة العم “فوتو كبي” الطويل والمظلم: هو جارته ست صفية «شيرين رضا» التي كانت هي الأخرى تعيش في حالة من قلق النهاية والفناء بسبب معاناتها من سرطان الثدي، وشعور العزلة الذي صبغ أوقاتها منذ رحيل ابنها للعمل بينما كانت تنتظره بيأس، كما كانت – وبشكل يومي – تنتظر إعادة بث أغنية فريد الأطرش “البي ومفتاحه”.. وعمومًا كان اللجوء للماضي حلاً بشريًا مريحًا لأبطال الفيلم لإدامة الزمن ومحاربة الفناء؛ لأن الماضي يبقينا في المؤقت بشعور من الديمومة دون أي متاعب!
لقد وجد العم محمود في جارته المريضة نافذة أمل للبقاء على قيد الحياة؛ لأن الحب حالة رغبة ووفرة، بينما الكره حالة رفض ونفي. ويظهر ذلك حينما سأل العم محمود الصيدلانية التي تتردد على بيت ست صفية لإعطائها الدواء: “هل يمكن للعجوز أن ينجب طفلا”. وهنا يبدو أن الولادة كانت أحد خيارات التناهي والبقاء في عقل “محمود فوتو كبي” لمواجهة الانقراض المرعب! بينما حوَّل آلة التصوير العتيقة في محله إلى سلاح حديث لمقاومة الموت والرفض والاستسلام؛ ولذا البشر يتفوقون على الديناصورات بالوعي والتكيف ولا يستسلمون للموت والانقراض بسهولة.
لقد أجاب العم محمود على معضلة الفناء بإجابة “كيركجارد” الإنسانية عبر اقتحام الحياة لصنع مزيدٍ من الخيارات الممكنة! ولأن الإنسان كائن اجتماعي، كما يقول أرسطو، فإن بقاءه مرهون بعلاقته مع الآخر عبر خيار الحب المتناهي، والمتعالي على كل الغرائز والرغبات الآنية الفانية.
المصدر: سوليوود