شوف عمل إيه فينا الذكاء الاصطناعى!
ناهد صلاح
السينما شأنها شأن الحياة تيار متدفق، متصل الظواهر، لا يمكن فصل لحظته الراهنة عن ماضيه أو مستقبله، أو عن تفاعلها مع مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة، بل والقانونية أيضًا، لتصوغ نفسها ببطء يصعب الانتباه إليه أو إدراكه في لحظة التشكل والتغير.
وبسبب صعوبة انتباه المنخرطين في اللحظة، ولأن العين لا ترى نفسها، فإنه من الطبيعي أن نحتاج دومًا إلى بعض الفطنة نحو الظواهر والقضايا السينمائية وفهمها في ضوء واقعها وسياقها الزمني، من هنا يبدو أن الإضراب الذي تشهده هوليوود لنقابتي: نقابة الممثلين ونقابة الكُتاب، هو في حقيقته ليس فقط احتجاجًا على الأجور وعدالة توزيعها، إنما هناك أيضًا المخاوف الكبيرة، المستترة والمعلنة من الذكاء الاصطناعي، هذا المصطلح الذي يتردد بوفرة مؤخرًا، وما يمكن أن يترتب عليه من تغيرات كبيرة تنقل الصناعة، بل الواقع بأكمله إلى منطقة أخرى، فالعالم بصدد عصر جديد تتسع فيه القدرات الإليكترونية إلى مدى يتجاوز الخيال، ليس في السينما فقط إنما في كل نواحي الحياة.
إضراب هناك وترقب هنا، استدعى تساؤل البعض منا: وما بالنا نحن بذلك؟ يكفينا ما لدينا من مشاكلنا التقليدية في الصناعة وأحوالها المختلفة عن نجوم هوليوود المُنَعَّمين.. بالطبع تبدو هذه نظرة قاصرة تجاه الإضراب الهوليوودي، وهو يعد واحدًا من الإضرابات التاريخية الكبيرة في عاصمة السينما بالعالم: إضراب العام 1960 وكان رونالد ريجان )الممثل حينذاك( يرأس نقابة الممثلين قبل وقت طويل من دخوله السياسة وقبل أن يصبح رئيسًا لأمريكا، وقد وقع آخر إضراب للممثلين في العام 1980.
أما نظرة البعض الضيقة، فإنها لا تستوعب توقف أو تعطل عجلة الصناعة في أمريكا سيكون لها صدى ما في سوق السينما العالمية، وإن كانت القضية الأوسع في نظري حاليًا تتعلق بهذا التوجس المذعور صوب القادم، بما يشبه التهديد باندثار العنصر البشري واستبداله بتقنية إليكترونية، مجرد التفكير في الأمر من هذه الزاوية مرعب ويثير الفزع بل ويحول الحياة إلى جحيم عظيم، لكن ببعض التريث والتأمل ربما نتعرف على حقيقة اللحظة التي نعيشها ليس في السينما فقط، لكن في مختلف جوانب حياتنا، فمن الحماقة أن نعيش في عصر جديد، عصر المنصات الرقمية والـ “ميتافيرس” والـ ” ثريدز” والقدرات الإليكترونية المترامية الأطراف، دون أن نفهمه ونكتفي بأن نتقوقع في مخاوفنا بإلغاء بشريتنا، فالخوف وحده كفيل وأن هذا التكيف بأن يلغي البشرية.
نظرة متأنية إلى حال السينما عبر تاريخها كله، وعبر تأثرها وتأثيرها في العالم، تؤدي إلى استبصار علاقتها بالتكنولوجيا، إذ لا يعقل أن نتجاهل مثلًا هندسة بناء الفيلم، ومستوى التطور التكنولوجي الذي يعكس نفسه في طريقة تنفيذ الخدع السينمائية (التروكاج) أو تنفيذ بعض المشاهد الصعبة في حوادث السيارات والطائرات والكوارث الطبيعية، أو في تحقيق المزيد من الدقة التي تتطلبها أفلام الفانتازيا من أجل مصداقية أكبر لدى المتلقي، وبالتالي فإن صناعة السينما دائمًا كانت في طريقها إلى ماهي فيه الآن، لأن شيئا لا يأتي من الفراغ ولا يذهب إليه، أو حسب الجملة المأثورة: “ليس هناك أقوى من فكرة آن أوانها”، ومن الواضح أن الأوان كان قد آن لانتقال السينما إلى مرحلة جديدة لم يساهم فيها فقط صناع السينما، ولا النقاد، ولا العالم المضغوط بعنف تحت ثقل المتغيرات العالمية والكونية، إنما كل هذه التوليفة مُجمعة ساهمت في هذه النقلة.
إذا التغيرات هي بنت الزمن واللحظة، ولم تكن مجرد صدفة عمياء أو ضربة حظ، أو مجرد قرارات وإنجازات مبعثرة تبدو بعيدة عن بعضها، من بلد لآخر أو من حال لغيره، ولنا أن نتذكر التحولات التدريجية التي حدثت على مدار سنوات من التحسن المذهل الذي طرأ على معدات الصوت والتصوير وماكينات العرض، تصميمات الدعاية، ثقافة التلقي التي خرجت بمُشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام “المول” ومطاردته بإلحاح التسوق والتشتت الإعلاني، والإختيارات الجاهزة والسهلة المستمدة من زمن “الأوبشن” حسب لغة الكومبيوتر.. اللحظة التاريخية كلها كانت ضد القديم المعلوم الذي استنفذ أغراضه، ومع الجديد المجهول الذي لا نعرف له هدفُا سوى التغيير والتجديد، وبالطبع لابد أن يكون الجديد مبهرًا ومغريًا، بصرف النظر عن أهدافه وقيمته الحقيقية، فلا مكان للأفكار (الأيدلوجيا) كما عرفنا، لأن الصورة أصبحت هي الأساس، ولا مكان للمضمون لأن الشكل أصبح هو “السيد” وهو “الرسالة المبتغاة”.
تحطمت الأنساق، وانفجرت البنى، وماتت السرديات الكبرى، وتاهت المعاني، وأصبحنا نعيش في زمن الاجتزاء و”الاسكتش” والقصاصات المبعثرة.