آراء

عيد الميلاد كما يعيشه الباقون

أمنية عادل

نجحت السينما الأميركية في إنتاج أفلام تعبر عن أعياد الميلاد وغنية بالمشاعر المتباينة التي تصاحب فترة الأعياد، تتأرجح تلك المشاعر بين الدفء والحنين وربما زيادة الشعور بالوحدة لدى البعض.. هكذا هي الحياة. من خلال هذه الطبيعية ينطلق المخرج الأميركي Alexander Payne ألكسندر باين، في رحلة لتتبع حياة ثلاثة أشخاص يقضون عيد الميلاد داخل إحدى المدارس الداخلية النائية مع مطلع سبعينيات القرن المنصرم.

بول هو مدرس تاريخ في مدرسة داخلية، رجل ذو شخصية كاريكاتيرية حيث يسير بطريقة خاصة ومظهر يميزه عن الآخرين حتى في عينيه، لا يأبه بول بما يراه الناس أو يقولونه عنه ومن بينهم الطلاب الذين يجدونه غريب الأطوار، رتيبًا، ضيق الأفق يعيش خارج الزمان دون الانتباه إلى المتغيرات، من بين هؤلاء الطلاب «أنغيس»، الذي يسعى إلى تحقيق ارتقاء في دراسته حتى لا يضطر إلى الذهاب في نهاية المطاف إلى مدرسة عسكرية بعد أن طُرد من عدة مدارس سابقًا. في المقابل هناك ماري مسؤولة المطبخ في المدرسة التي تعاني من حزن دفين على ولدها الشاب الذي توفي أثناء تأدية واجبه العسكري في فيتنام. ثلاثة أشخاص كل منهم يحمل بداخله أزمة قد ترتقي إلى حد المعاناة مع كشف الأحداث لذلك.

خيط رفيع

يسير فيلم «الباقون The Holdovers» بوتيرة هادئة وسرد تقليدي، لكنه يحمل الكثير من المفاجآت التي تتفجر مع الاقتراب أكثر من الشخصيات، حيث تصبح أجواء الكريسماس واحتفالات عيد الميلاد مجرد حاوٍ لأحداث الفيلم والكشف عن التباينات داخل الشخوص.

قد تكون مهنة التدريس من أكثر المهن مخاطرة رغم وداعة مظهرها الخارجي، وتعود تلك المخاطرة في الحد الفاصل الذي على المعلم أن يسير وفقه خلال تعامله مع الطلاب وذلك حتى لا يفقد الخيط الرفيع الممثل لسلطته داخل الفصل أو المدرسة بشكل عام. في هذا الإطار يتعامل بول مع طلابه حيث يُرسي في كافة تعاملاته هذا الخيط الذي ينقطع بينه وبين أنغيس حينما يتواجهان وذلك بعد اضطرار كل منهما لمرافقة الآخر والبقاء داخل المدرسة؛ إذ يضطر بول أن يبقى في المدرسة بسبب بقاء طالب واحد فقط في المدرسة أثناء عطلة عيد الميلاد، هذا الطالب هو أنغيس.

بصورة تدريجية يتناغم بول وأنغيس ويكتشف كل منهما عالم الآخر كل هذا في حضور حزن ماري، تلك التي تحاول الظهور بمظهر متماسك، لكن لا بد أن يظهر الحزن في لحظة، في مفارقة يُظهرها الفيلم حيث تستعيد ماري حزنها في اللحظة التي يحتفل فيها الجميع بقدوم الميلاد المجيد ويحاول كل من بول وأنغيس التخفيف عنها.

سر دفين

يحمل بول وأنغيس سرًا خفيًا يحاولان التغلب عليه بالكتمان وتتسبب المفارقة في كشف هذا السر، أنغيس الذي يقبع والده في مصحة عقلية بعد تدهور حالته ويشعر بألم شديد وافتقاد لدور الأب في حياته، وبول الذي يمارس الكذب على نفسه والآخرين على مدار عقود حتى لا يستعيد فشلًا قد مضى. يتعامل الفيلم مع الكثير من المشاعر والإخفاقات في إطار سرد سلس يزيد من حالة الارتباط بالشخصيات والشعور بالتعاطف نحوهم، حيث يتغير كل من بول وأنغيس وتتباين مواقفهم تجاه بعضهم البعض وتجاه الحياة والآخرين أيضًا، ويتحول الإخفاق إلى دافع لمحاولة جديدة.

وكأنها هدية عيد الميلاد التي جلبها نويل معه إلى كل منهما، حيث دفع أنغيس بول نحو تحقيق حلمه والخروج من شرنقة محدودية المكان، في المقابل أنقذ بول مستقبل طالبه بعد أن كان غير آبهٍ بما يحدث للطلاب، وعلى الصعيد ذاته جلب الميلاد السكينة لماري التي تعايشت مع فقد ابنها.

بطريقة مستترة يشير الفيلم دون إفصاح صارخ عن حاجة كل من ماري وبول وأنغيس لبعضهم البعض، يحتاج كل منهما إلى رفيق صادق دون الحاجة إلى تسمية أو توصيف هذا الشخص، فقط رفيق صادق يؤمن بهم ويحتويهم ويدفعهم نحو الطمأنينة والدفء، وربما يعد هذا هو جوهر أيام أعياد الميلاد وقيمتها.

طريق الحقيقة

عادة ما يشكل الطريق حضورًا ملحوظًا في أفلام المخرج الأميركي ألكسندر باين، كما في أفلامه Sideways 2004 ،About Schmidt 2002 ،Nebraska 2013، حيث يشكل الطريق جانبًا من رحلة اكتشاف الذات التي تعيشها الشخصيات، وهو الحال مع الباقين حيث يغادر الأبطال الثلاثة المدرسة في رحلة ميدانية لقضاء عيد الميلاد، اتجه أنغيس وبول إلى بوسطن بعد أن أوصلوا ماري إلى منزل عائلتها.

تحتل بوسطن مكانة هامة في نفس أنغيس، تلك المكانة التي تعزز حينما يتكشف سر والده ورغبته في زيارته في المصحة العقلية التي يقطن بها، نرى في أنغيس إنسانًا مختلفًا، نراه عجوزًا في جسد صبي يتناول أدوية الاكتئاب ويعاني في صمت، في حين تكشف بوسطن طفولة بول واستسهال الكذب للظهور بمظهر مغاير عن جوهره الحالي. يُرادف الفيلم بين المكان والمكاشفة لإرساء قيمة جديدة وهي عدم الحكم على الشخوص من الصورة التي يظهرون بها.

تتباين قيمة المكان وحضوره في الفيلم مع تباين مشاعر الأبطال تجاهه، وهو ما تم ترجمته على صعيد الصورة البصرية، حيث إن المدرسة وردهاتها لم تعد جافة كما كانت وأصبحت غرفة الطعام أكثر حميمية ودفئًا مع الوجبة الدافئة التي صنعتها ماري لثلاثتهم.

كوميديا مضفرة

جاورت الكوميديا الدراما التي تعيشها الشخصيات وصاغها كاتب السيناريو David Hemingson ديفيد هيمنجسون. تنطلق الكوميديا بداية من شخصية بول التي يقدمها بجدارة Paul Giamatti ذو الأداء المتنوع، حيث يعبر عن كافة المشاعر والملامح والنقائص أيضًا التي تغلف شخصية بول ويعيش أسيرًا لها؛ إذ لا يكشف عادة عن مكنوناته الداخلية ويكتفي بصد الآخرين من حوله، وهو الأمر الذي تغير بعد رحلته مع أنغيس.

بصورة عامة يعد الأداء التمثيلي في الفيلم من أفضل العناصر وذلك بالنسبة إلى Da’Vine Joy Randolph التي لعبت دور ماري، حيث أجادت لعب دور الأم الفاقدة لنجلها، وكذلك Dominic Sessa في أول أدواره السينمائية حيث دور أنغيس.

فيلم «الباقون» لا يعد الفيلم الأول الذي يقدمه ألكسندر باين يدور داخل مدرسة أو يرصد علاقة متشابكة تجمع بين معلمين وطلاب، حيث قدم من قبل فيلم Election «الانتخابات» في عام 1999. يشهد فيلم «الانتخابات» تجذر الكوميديا، ويكشف عن جانب آخر لحالة الضغط الناتجة عن علاقة الندية التي قد تنشأ بين الطلاب والمعلمين. في فيلم «الباقون» دائمًا ما كان يشعر بول بدوره وسلطته التي لا بد أن تكون حاضرة في علاقته مع الطلبة، تلك السلطة التي تبخرت شيئا فشيئًا مع أنغيس وفتحت له الباب نحو المضي في رحلة جديدة على طريق الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى