آراءكُتاب الترند العربي

مصادر الرؤية الجمالية في السينما

يزيد بدر

كنا قد فرقنا في مقالة «السينما بوصفها رؤية جمالية» بين البعد التقني في السينما والبعد الجمالي، وذلك حتى نضع هذا الفن في سياق تاريخ الجماليات والنقد والفلسفة وغير ذلك. إننا نهدف إلى وضع الأصول قبل الشروع في ترجمتها إلى صورة متحركة من خلال الوسيط التقني، وهذه التفرقة لا تقوم على مفاضلة بين الرؤية الفنية والوسيط التقني؛ لأننا نقر بأن جزءًا كبيرًا من جماليات السينما تتشكل من خلال هذا الوسيط التقني، بل نسعى هنا إلى تأصيل نقطة البدء وتعميقها، وأعني مفهوم الرؤية الجمالية، فغالبًا ما تعزى الرؤية الجمالية للمخرج وهذا تبسيط للعملية الإبداعية. مع ذلك، من الجيد أن نبدأ من مفهوم سيادة المخرج وبعد ذلك قد ننطلق في عملية تفكيك للأدوار وتحليل كل ما يمكن أن يساهم في بلورة الرؤية الجمالية.

إن الرؤية الجمالية لها مصادر عدة، ولو أردنا تعميق هذه المصادر لقلنا منها ما هو واعٍ، ومنها غير واعٍ، بل منها ما هو حتمي ومنها ليس كذلك. ومن جهة أخرى، نجد مصادر واضحة وهي ما تهيمن على السينما عند ولادتها، وأعني العادات والتقاليد والدين وغير ذلك مما يشكل مجتمعًا ما. ولو أخذت جولةً سريعة في أي سينما عالمية، لوجدت أنها غالبًا ما تبدأ مما هو محلي كالقضايا الدينية والاجتماعية والاقتصادية.

لذلك، ليس همنا في هذه المقالة أن نحدد كل مصادر الرؤية الجمالية، ولا أسعى لتفضيل مصدر على آخر، بل ما أريده هو ذكر مصدر لطالما لعب دورًا كبيرًا في تاريخ السينما، بل ويعد واحدًا من أهم أركان أي رؤية جمالية تسعى للإبداع وتجريب المستحيل في فضاء الممكنات.

تعد الفلسفة منذ القدم رافدًا مهمًا للفن بعامة، وتاريخ الفلسفة والفن لا يمكن تبسيطه، حيث كانت هناك محطات تكشف عن عداوة قوية بين هذين الحقلين، كالذي نجده عند أفلاطون وفنون عصره، بينما في المقابل نجد من يسعى لإخضاع الفن تحت راية الفلسفة كما فعل أرسطو وغيره. ولكن، ما هي الفلسفة حتى تكون مصدرًا مهمًا للسينما؟ وهل الفلسفة في زمن يبشر الكثير بموتها قادرة على أن تمد يد العون للفن؟ وهل في سياق السينما السعودية، قادرة الفلسفة على تطوير هذه الصناعة وتعميقها؟ كل هذه أسئلة مشروعة، ولو أردت تحديد الفلسفة لكان فعليًا في حد ذاته وليس فلسفيًا؛ لأنني لا أميل لوضع التعاريف المجردة التي تسقط دائمًا في لا تاريخية المفاهيم، أو بعبارة أخرى كل تعريف هو حد وثبات، ومن ثم هو قتل لصيرورة الحياة وأفكارها المتجددة، وهذا يعني أنه لا سبيل لتعريف الفلسفة إلا من خلال تاريخ الفلسفة، ومن هذا التاريخ نستنبط صفات للتفكير الفلسفي تبتعد عن الأنساق الكبرى الجاهزة، فالفلسفة قبل كل شيء هي طريقة عيش وأسلوب حياة، وهي تُعنى بالأسئلة الكبرى: ما الإنسان؟ ما الحياة؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ ومن هذه الأسئلة تتولد أسئلة كبرى مثل: ما الزمان؟ وما المكان؟ وما الواقع؟ إن الفلسفة كطريقة تفكير وكتاريخ لصراع الأفكار وتطاحنها تعد تثويرًا وتعميقًا لهذه الأسئلة.

ومن هنا ندرك أن الفلسفة لا تملك وحدها ملكية هذه الأسئلة إلا أن تملك صفاتًا تتفرد بها، وهذه الصفات هي التفكير الحر والرؤية النقدية المستمرة وفق مبدأ المحاولة والخطأ. كذلك من صفاتها أنها على عكس العلم تجعل من مقولة الواقع معلقة أو بين قوسين، بينما العلم يميل إلى ترسيخ مقولاته بوصفها مقولات للواقع المطلق. إن الفلسفة بهذا المعنى هي تدريب ذهني وطريقة في التعاطي مع الحياة، ومن ثم هي ينبوع أساسي لكل رؤية جمالية.

ولو أردنا أن ننزل قليلًا من سماء التجريد والتنظير نحو جرد سريع لكل تلك الفنون والمدارس الجمالية، وكذلك المخرجون الذين انطلقوا من رؤى فلسفية لتقوية رؤيتهم الفنية والجمالية فيما يبدعونه، السريالية مثلًا هي سؤال جذري عن طبيعة الواقع الجوهرية، ولو فحصت مصادر هذه الحركة الجمالية لوجدت التحليل النفسي الذي أبدعه فرويد هو المصدر من بين مصادر أخرى التي قامت عليها هذه المدرسة. ولو اعتبرنا فرويد محللًا نفسيًا وليس فيلسوفًا لبحثنا عن مصادر فرويد ذاته التي تحيل لشوبنهاور ونيتشه.

وقس ذلك على الانطباعية والتعبيرية وعلاقتها مع الإبستمولوجيا الحديثة التي هاجمت قدرة الحواس على إدراك العالم كما هو. أما بالنسبة للمخرجين، فالقائمة تطول حيث يندر أن تجد مخرجًا عالميًا لا يطرح سؤال فلسفيًا كبيرًا في أفلامه، منذ أورسن ويلز وأيزنشتاين الذي اعتمد على هيغل وماركس، وصولًا للواقعية الإيطالية والموجة الفرنسية الجديدة وغير ذلك مما يطول ذكره. وهنا نصل إلى غاية هذه المقالة، وهي: الرؤية الجمالية لها مصادر متعددة ولكن من بين كل مصادرها تبرز الفلسفة كمصدر مهم وقوي في تجذير عملية الإبداع الفني.

وختامًا تعد هذه المقالة دعوة للاطلاع على تاريخ الفلسفة وتاريخ الفن وتاريخ السينما حتى نملك زمام الرؤية الجمالية في عصر يصدر الكثير من إعلانات الموت كموت الفن وموت الإنسان وموت الصورة… إلخ. هذا العصر والسياق الذي نقف فيه يضعنا في مأزق حتمي: ما موقف الفنان السعودي من تاريخ الفن العالمي؟

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى