عمر غازيكُتاب الترند العربي

النية المعلّقة

النية المعلّقة

عمر غازي

في استطلاع أجرته جامعة هارفارد عام 2022، تبيّن أن 64% من المشاركين في الحملات التطوعية الرقمية يفضلون الأنشطة التي يمكن تصويرها ونشرها، حتى لو كانت أقل نفعًا من غيرها. بينما أظهرت النتائج أن 52% منهم توقفوا عن العمل التطوعي بعد انخفاض التفاعل مع منشوراتهم. أطلق الباحثون على هذه الظاهرة مصطلح “العمل المشروط بالضوء”، في إشارة إلى أن بعض الأفعال لم تعد تُمارس بدافع أخلاقي صرف، بل بدافع الرغبة في التقدير العلني.

هذه الظاهرة لا تتعلق فقط بالإعلام أو المؤثرين، بل أصبحت جزءًا من سلوكنا اليومي، حيث تُربط النية بالظهور، ويُختزل الصدق في عدد الإعجابات. ليست المشكلة في أن نُوثّق الخير، بل في أن نحتاج لرؤيته منشورًا قبل أن نفكر به أصلًا. أن يتوقف العمل لو لم يكن قابلًا للتصوير، أو لو لم يكن هناك جمهور ينتظر. وهنا، لا تتحرك النية من القلب، بل من الكاميرا.

في تحليل نشرته جامعة أكسفورد عام 2023، تم تتبّع أثر “النية الرقمية” على الهوية الأخلاقية للفرد، وخلص الباحثون إلى أن تكرار التظاهر بالفضيلة أمام الجمهور يجعل الإنسان بمرور الوقت يُقيّم ذاته بما يراه الآخرون، لا بما يشعر به في داخله. ومع الزمن، يحدث انفصال بين الضمير والسلوك، ويظهر نمط الإنسان الذي يبدو فاضلًا، لكنه لا يتحرك إلا حين يُشاهد.

المؤثرون الذين يروّجون لأي منتج دون معايير واضحة، والذين يغيّرون آراءهم وفقًا للعائد المادي، يعكسون هذه الإشكالية بوضوح. الجمهور لم يعد يثق بسهولة، لأن الرسالة فقدت نقاءها. والنية لم تعد خالصة، بل أصبحت معلّقة بثمن، أو بردّة فعل، أو بلقطة محسوبة.

حين نُربّي أنفسنا على أن نفعل الصواب ولو لم يُر، فإننا نستعيد جوهر النية. لكن حين ننتظر من الخارج أن يُشجّعنا، أن يرانا، أن يُشارك فعلنا، فإننا نربط القيمة بما هو خارجي، لا بما هو حقيقي.

النية لا تُرى، لكنها تُحسّ. ويكفي أن يسأل الإنسان نفسه: لو لم يرني أحد، هل كنت سأفعل؟ ولو لم تُكتب لي كلمة شكر، هل سأكرّرها غدًا؟ ولو لم أستطع نشر الصورة، هل سيبقى في قلبي شيء يُحرّكني للفعل؟

ويبقى السؤال. هل ما نفعله فعلًا يُعبّر عنا؟ أم أننا فقط نُنفّذ ما ينتظره منا الناس؟ وهل تظل النية نية إذا لم تتحرّك إلا عندما تُعلّق؟

لمزيد من مقالات عمر غازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى