عمر غازي

المنصورة.. عاصمة السياحة العلاجية

عمر غازي

في قلب دلتا النيل، حيث تختلط عراقة التاريخ بنبض العلم، ترقد مدينة كان قدرها أن تكون شيئًا أكبر مما تخيله لها الجغرافيا، المنصورة، المدينة التي احتضنت أول كلية طب في صعيد الدلتا، وصنعت لنفسها اسمًا لامعًا في مجال الطب والعلاج عبر عقود من الزمن، لا تحتاج اليوم إلى بداية جديدة، بل تحتاج فقط إلى أن تؤمن بما تمتلكه، لتعلن للعالم أنها عاصمة السياحة الطبية في مصر.

ليست هذه أمنية حالمة، بل معادلة واقعية، تعتمد على حقائق موجودة بالفعل، من جامعة المنصورة العريقة التي تنافس كبريات الجامعات في التخصصات الطبية بالعالم العربي، إلى مراكز طبية متخصصة أصبحت قبلة للمرضى من أنحاء مصر وخارجها، دون أن تتوفر لها بنية سياحية مرافقة تليق بهذا الزخم العلمي والطبي.

وفي صميم هذه الفرصة الكامنة، يقف مركز الكلى والمسالك البولية في جامعة المنصورة، الذي يُعد واحدًا من أبرز الصروح الطبية في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث يقدم خدمات تخصصية دقيقة على مستوى عالمي، ويستقبل آلاف المرضى سنويًا من مختلف أنحاء العالم العربي، وهو مركز بإمكانه أن يتحول إلى محور رئيسي لصناعة سياحة علاجية ضخمة حوله، على غرار ما فعلته دول مثل الهند التي أنشأت مدنًا طبية حول مستشفيات مرموقة مثل معهد فورتيس الطبي في دلهي.

ففي وقت تسعى فيه دول العالم لاستثمار كل ميزة تنافسية تملكها، تقف المنصورة على أعتاب فرصة تاريخية لا ينبغي أن تُهدر، ففي عالم اليوم، لا تنافس المدن على التاريخ وحده، بل على الخدمات المميزة، ومن كان لديه أطباء بارعون وعلماء أفذاذ، يمكنه أن يخلق صناعة اقتصادية متكاملة قائمة على السياحة العلاجية، تضاهي ما فعلته دول مثل تايلاند والمجر وتركيا خلال العقود الماضية.

محددات السوق العالمية للسياحة العلاجية في السوق العالمية اليوم، يتطلب النجاح في السياحة العلاجية أن تكون الخدمة الطبية مترافقة مع جودة فندقية مميزة، وعناية شخصية، وخدمات ترفيهية تتيح للمريض أن يعيش تجربة متكاملة، حيث أظهرت دراسة نشرتها المنظمة الدولية للسياحة العلاجية عام 2022 أن 75% من المرضى الدوليين يفضلون اختيار وجهتهم العلاجية بناءً على التكامل بين الجودة الطبية والبنية السياحية، لا على أساس الجودة الطبية فقط، وهذا ما يجعل المنصورة بحاجة إلى تطوير جانب الضيافة الفندقية والبيئة الداعمة، بجانب مستشفياتها ومراكزها العلاجية الممتازة.

مزايا استراتيجية

تتميز المنصورة بقربها الجغرافي من عدة مطارات دولية رئيسية مثل مطار القاهرة الدولي ومطار سفينكس بالجيزة، إضافة إلى إمكانية الاستفادة من مطار بورسعيد القريب نسبيًا وتحويله إلى مطار دولي يستقبل رحلات مباشرة، كما أن قرب المنصورة من مراكز حضرية كبرى مثل دمياط وبورسعيد وطنطا يفتح مجالًا واسعًا لاستقبال أعداد كبيرة من المرضى والمرافقين.

استثمار الريف كمرافق صحية وفندقية

واحدة من الفرص الذهبية غير المستغلة هي القرى المحيطة بالمنصورة، إذ يمكن تطويرها لتصبح ضواحي طبية وفندقية، تحافظ على الطابع الريفي الجذاب مع تزويدها بخدمات راقية تلائم السياحة العلاجية، مع ضرورة الالتزام بإجراء دراسات بيئية واجتماعية دقيقة تضمن الحفاظ على النسيج الريفي دون تشويهه، على غرار ما قامت به مناطق مثل تشيانغ ماي في تايلاند أو منطقة توسكاني في إيطاليا، حيث دمجت القرى والريف في أنشطة السياحة العلاجية والاستجمامية بطريقة متقنة، مما رفع من معدلات الإشغال الفندقي إلى 80% سنويًا.

الدروس المستفادة من التجارب العالمية

التجارب الناجحة في السياحة العلاجية عبر العالم تشير إلى ثلاث ركائز لا غنى عنها، أولها التخطيط طويل الأمد الذي يربط بين القطاعين الصحي والسياحي بشكل استراتيجي، وثانيها الاهتمام ببناء العلامة التجارية الدولية للوجهة العلاجية وترويجها باحترافية، وثالثها وجود إدارة موحدة مستقلة لضمان تنسيق الجهود وتوزيع الاستثمارات بشكل عادل، ففي تايلاند مثلًا، أنشئت هيئة السياحة العلاجية Thai Health and Wellness Tourism Board ككيان مستقل، نجح خلال عقد واحد في جعل البلاد ضمن أفضل خمس وجهات للسياحة العلاجية في العالم.

التسويق الدولي الفعال

بناء الهوية الدولية للمنصورة كوجهة للسياحة العلاجية يتطلب استراتيجية تسويق شاملة تبدأ بإطلاق علامة تجارية مميزة، وتنظيم حملات ترويجية في الأسواق الإقليمية والعالمية، خصوصًا في إفريقيا والخليج العربي وأوروبا الشرقية، حيث ترتفع نسبة البحث عن وجهات علاجية موثوقة بتكلفة أقل من أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، ووفقًا لدراسة صادرة عن Global Health Travel Council عام 2021 فإن الحملات الترويجية المركزة ساهمت في زيادة أعداد السائحين العلاجيين إلى دول مثل تايلاند والمجر بنسبة 45% خلال خمس سنوات فقط.

الحوكمة والإدارة الرشيدة

ولتحقيق كل ذلك، لا بد من تأسيس كيان موحد لإدارة هذا المشروع القومي يتسم بالشفافية والاحترافية، ويضم تحت مظلته ممثلين من الجامعة، المحافظة، وزارة السياحة، وزارة الصحة، وقطاع الأعمال الخاص، مع وضع آلية مستقلة لمراقبة الأداء وتقييم النتائج دورياً، حيث أكدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020 أن نجاح المشاريع السياحية العلاجية الكبرى يرتبط بنسبة 80% بوجود إدارة رشيدة متعددة الأطراف، توازن بين الأهداف الطبية والاستثمارية والاجتماعية.

الخطوة المقبلة

وفي ضوء كل ما سبق، فإن الخطوة العملية التالية هي مناشدة سيادة اللواء طارق مرزوق محافظ الدقهلية، للتنسيق مع جامعة المنصورة والجهات التنفيذية في المحافظة لإطلاق مبادرة رسمية لدراسة الفكرة، تشمل تشكيل لجنة مشتركة، تبدأ بدراسة الاحتياجات الفعلية من بنية تحتية فندقية وطبية، وتهيئة القرى المحيطة، ووضع خطة تنفيذيو تشمل طرق تمويل وتنفيذ مراحل المشروع.

وختامًا.. المنصورة اليوم أمام لحظة فارقة، فإما أن تظل منارة علمية محلية محدودة التأثير، أو أن تتحول إلى مدينة سياحة علاجية تضاهي كبرى الوجهات العالمية، فالفرصة موجودة، والعناصر متوفرة، والإرادة وحدها هي الفاصل بين الحلم والحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى