رمضان في زمن الخلفاء الراشدين.. طقوس إيمانية في حضرة الزهد والعدل

الترند العربي – خاص
على أطراف المدينة المنورة، كان الهلال الجديد يطل خجولًا فوق كثبان الرمل، معلنًا قدوم شهر رمضان، الشهر الذي لطالما ارتبط في أذهان المسلمين بالخشوع والتقوى، لكنه في زمن الخلفاء الراشدين كان أكثر من ذلك، فقد كان محطة للتحول، حيث تجتمع السياسة بالعبادة، ويتجلى العدل في أبهى صوره، وتتخذ الأمة الإسلامية خطواتها الأولى نحو رسم ملامح هويتها الروحية والاجتماعية.
في عهد أبي بكر الصديق، كان رمضان هادئًا كهدوء شخصيته، فلم يكن هناك ترف أو إسراف، بل بساطة تقرب القلوب من المعنى الحقيقي للصيام. كان الخليفة الأول، رغم انشغاله بإدارة الدولة الناشئة، يحرص على قضاء أوقاته بين الناس، يجلس معهم على الإفطار، لا يميز بين غني وفقير، يكتفي بكسرة خبز وتمر، ويرفع يديه إلى السماء داعيًا: “اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا.” لم يكن في عهده مجال للترف، فقد كان الصيام مدرسة للزهد، لا مجرد عادة سنوية.
أما في زمن عمر بن الخطاب، فقد اكتسى رمضان بملامح العدل، حيث كان الفاروق يجوب الأسواق حتى في الساعات المتأخرة من الليل، يسأل التجار عن أسعار السلع، يردع المحتكرين، ويقف بنفسه عند مداخل المدينة يستقبل القوافل القادمة محملة بالقمح والتمر، يوزعها بنفسه على الفقراء قبل أن يفطر. كان يرى أن رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام، بل عن الظلم والجور، فكان يردد دومًا: “ويلٌ لمن ملأ بطنه وترك جاره جائعًا.” وكان أول من جمع الناس في صلاة التراويح خلف إمام واحد، في مشهد أعاد روح الجماعة إلى الأمة الفتية.
في خلافة عثمان بن عفان، ظهر وجه آخر لرمضان، وجه الكرم والعطاء، فقد اشتهر الخليفة الثالث بأنه كان ينفق بسخاء في الشهر الكريم، يرسل القوافل المحملة بالطعام والكسوة إلى المحتاجين، ويجعل أبواب بيته مفتوحة للجميع. كان يقول: “من أفطر صائمًا فله مثل أجره.” ويحكى أنه في إحدى ليالي رمضان، اشترى بئرًا بأمواله الخاصة ليسقي المسلمين مجانًا بعدما كان التجار يبيعون الماء بأسعار باهظة.
أما في عهد علي بن أبي طالب، فقد كان رمضان زمنًا للورع والتأمل، إذ كان أمير المؤمنين يسير ليلًا في شوارع الكوفة، يحمل أكياس الدقيق بنفسه، يضعها أمام بيوت الفقراء دون أن يعرفوا من صاحبها. كان يردد: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته.” وفي ليالي رمضان، كان يجتمع حوله أصحابه ليتحدثوا عن معاني الصيام الحقيقية، بعيدًا عن المظاهر، قريبًا من جوهر العبادة.
لم يكن رمضان في تلك العصور مجرد مناسبة سنوية، بل كان تجربة إيمانية يعيشها الخلفاء كما يعيشها الناس، بلا موائد فاخرة، بلا ولائم ضخمة، بل بقلب خاشع وأيادٍ ممتدة بالخير. واليوم، ونحن في زمن السرعة والتكنولوجيا، هل لا يزال رمضان يحتفظ بروحه القديمة؟ أم أننا استبدلنا المعاني بالمظاهر؟