كُتاب الترند العربيعمر غازي

المال المستعمل

عمر غازي

في ثلاثينيات القرن الماضي، كان رجل الأعمال الأمريكي جون روكفلر، أحد أغنى رجال العالم، يعيش حياة مليئة بالضغوط النفسية والجسدية. رغم ثروته الهائلة، قضى سنوات طويلة وهو يكدس المال دون أن يشعر بأي سعادة حقيقية. كان مهووسًا بالحفاظ على ثروته، يخشى أن يفقدها، حتى تحول المال في حياته إلى مصدر قلق دائم بدلًا من أن يكون وسيلة للراحة.

عندما بلغ منتصف العمر، ووسط صراعه مع المرض، أدرك روكفلر أن المال الذي كان يكدسه لم يمنحه معنى أو هدفًا. فقرر حينها أن يغير نظرته إلى ثروته. بدأ بتأسيس مؤسسات خيرية ومشروعات تنموية، ومول أبحاثًا علمية ساهمت في القضاء على أمراض مثل الحمى الصفراء، وأسهم في إنشاء جامعة شيكاغو، التي أصبحت واحدة من أعظم الجامعات في العالم. الأمر المدهش أن حالته الصحية تحسنت بشكل ملحوظ بعدما بدأ يكرّس أمواله لإحداث تغيير إيجابي، بل عاش روكفلر سنوات أطول مما توقع الأطباء، وأصبح نموذجًا لرجل الأعمال الذي فهم أن المال لا يحقق قيمته إلا عندما يُستخدم لتحسين حياة الناس.

هذه التجربة ليست مجرد قصة عابرة، بل درس عميق حول ماهية المال ووظيفته. فالمال الذي لا يُستثمر لتحسين حياة الإنسان أو مجتمعه يظل مجرد رقم بلا معنى. حيث وجدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018 أن الأشخاص الذين ينفقون أموالهم على تحسين حياتهم أو مساعدة الآخرين يسجلون مستويات أعلى من السعادة بنسبة 40% مقارنة بأولئك الذين يكتنزون المال دون استثمار أو إنفاق.

عندما يُحتكر المال ولا يُعاد تدويره في الاقتصاد، يصبح عبئًا على الفرد والمجتمع. فبحسب تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي عام 2022، فإن الاقتصادات التي تعتمد على تدوير الأموال في مشروعات إنتاجية تُحقق نموًا اقتصاديًا أعلى بنسبة 25% مقارنة بالاقتصادات التي تعاني من تركز الثروة دون استثمار. هذا التأثير الإيجابي يظهر في دول مثل السويد وسويسرا، حيث تُستخدم الثروات المكتنزة لتمويل مشروعات البنية التحتية والتعليم والصحة، مما يعزز من التوازن الاجتماعي ويُحقق التنمية المستدامة.

لكن هذه الممارسات ليست السائدة في كل مكان. إذ يعاني العالم العربي من معضلة اكتناز الثروات في أيدي فئة قليلة دون استثمارها في تنمية المجتمعات المحلية، بل تُهرب غالبًا إلى الخارج. وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة النزاهة المالية العالمية (Global Financial Integrity)، فإن الدول العربية تشهد تهريبًا للأموال بمليارات الدولارات سنويًا، مما يُحرم الاقتصادات المحلية من فرص استثمارية ضخمة، ويؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة، وتراجع البنية التحتية، وغياب المشروعات التنموية التي تحتاجها الشعوب. هذه الممارسات لا تضر فقط بالاقتصاد، بل تعزز الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتُفاقم الإحباط لدى الأجيال الشابة التي تبحث عن فرص حقيقية للتقدم.

المال الذي يُعاد تدويره لا يحقق الربح فقط، بل يُحدث أثرًا طويل الأمد. حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2019 أن إعادة استثمار 10% من الثروات المكتنزة في مشروعات صغيرة ومتوسطة يمكن أن تُقلل معدلات البطالة بنسبة 15% وتُحسن مستوى الدخل في المجتمعات الفقيرة.

السؤال الذي يجب أن يسأله أصحاب الثروة لأنفسهم ليس عن مقدار ما يملكون، بل عن مقدار ما يستخدمون بشكل إيجابي. فالمال الذي لا يُستعمل يفقد قيمته الحقيقية، ويتحول إلى عبء يثقل صاحبه، بينما المال الذي يُستخدم لتحسين جودة الحياة لصاحبه وعائلته والمجتمع يبقى أثره خالدًا في صفحات التاريخ. وهنا يكمن الفرق بين من يملك المال ومن يملكه المال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى