عمر غازيكُتاب الترند العربي

أسرار المرضى.. الاختبار الصعب

عمر غازي

في لحظة مواجهة الألم، يتجلى الوجه الآخر للطبيب.. ليس ذلك الوجه المبتسم المليء بالثقة الذي اعتدنا رؤيته، بل هو ذلك الذي يحمل على عاتقه أسرارًا لا تُفصح، وأحزاناً لا تُروى! كيف يُمكن للطبيب أن يقف على حافة الحياة والموت، ويرى كل شيء دون أن يروي كل شيء؟

أخلاقيات مهنة الطب ليست مجرد نصوص قانونية تحفظها الكتب، بل هي مسألة وجودية تمتد إلى أعمق زوايا الإنسانية، فالطبيب ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو مؤتمن على أرواح وأسرار تكاد تكون أثقل من العلم ذاته، في عام 1935 كتب الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز عن أهمية الصمت المهني حين قال: “الصمت في لحظة الحرج هو فضيلة، بينما الإفصاح حين يُطلب منك الصمت هو خطيئة لا تُغتفر”.

أظهرت نتائج دراسة أجرتها “Journal of Medical Ethics” عام 2022، بعد تحليل بيانات شملت أكثر من 15,000 مريض في الولايات المتحدة وأوروبا، أن 75% من المرضى يشعرون براحة أكبر حين يدركون أن معلوماتهم الطبية ستظل محمية بالكامل، وهذه الدراسة لم تكن مجرد إحصاءً تقنيًا؛ بل جاءت لتعكس معضلة الثقة التي تتآكل في عالم يتسارع فيه إيقاع المعلومات، وذلك لأن انتهاك السرية الطبية لا يُضعف فقط العلاقة بين المريض والطبيب، بل يُساهم أيضًا في خلق حواجز نفسية تمنع المرضى من الإفصاح عن مشاكلهم الصحية بصراحة، مما يُعرقل عملية التشخيص والعلاج.

في عالم يتسابق فيه الجميع لجذب الانتباه واستغلال كل فرصة للمشاركة، يظهر سؤال معقد يتعلق بأخلاقيات سرد القصص الطبية دون ذكر أسماء، حين يستخدم الطبيب تفاصيل حالات مرضاه كمحتوى سردي دون الكشف عن الهوية، قد يبدو الأمر ظاهريًا كوسيلة للتعليم أو نشر الوعي، لكنه يحمل في طياته إشكالية أعمق، فحتى لو تم إخفاء الأسماء، تظل التجارب نفسها حاملة لشخصية مميزة يصعب إخفاؤها بالكامل، خاصةً في المجتمعات الصغيرة أو عند الحديث عن حالات نادرة.

وفقًا لدراسة نُشرت في “Journal of Narrative Medicine” عام 2021، فإن 60% من المرضى الذين تم سرد قصصهم بشكل مجهول شعروا بعدم الارتياح، معتبرين أن تجاربهم قد أُعيدت صياغتها واستُخدمت كوسيلة لتحقيق أهداف شخصية أو مهنية دون استشارتهم، وهذه الممارسة لا تخدم فقط كأداة للفت الانتباه، بل قد تتحول إلى انتهاك ضمني للثقة، حيث يتم اختزال معاناة المريض إلى مجرد قصة تُروى، دون اعتبار لأثرها النفسي العميق عليه.

من منظور الطب النفسي، يمكن تحليل هذا السلوك بوصفه جزءاً من “اضطراب الحدود المهنية”، حيث يفشل الطبيب في التمييز بين دوره كمعالج ودوره كمتحدث عام يسعى لجذب الانتباه، تشير دراسة نُشرت في “American Journal of Psychiatry” عام 2021 إلى أن الأطباء الذين يتجاوزون حدود السرية المهنية يعانون غالبًا من اضطرابات نرجسية، حيث يُعززون من شعورهم بالقيمة الذاتية من خلال مشاركة قصص شخصية مثيرة، دون اعتبار للأثر النفسي والاجتماعي الذي قد تتركه هذه القصص على المرضى.

وأخيرًا، لا بد أن نتساءل: إلى أي مدى يُمكننا أن نسمح لهذا التآكل الأخلاقي أن يستمر؟ هل نحن مستعدون للعيش في عالم تُباع فيه أسرارنا الطبية كقصص مثيرة للنقاش العام؟ أم أننا بحاجة إلى العودة إلى فضيلة الصمت، تلك الفضيلة التي تحفظ الكرامة الإنسانية وتعيد للطبيب دوره الحقيقي كمعالج، لا كناقل للأخبار؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى