صناعة الغباء
عمر غازي
عندما نتحدث عن الغباء، قد يتبادر إلى الأذهان أنه سمة فطرية أو نقص في القدرات العقلية، ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، فالغباء يمكن أن يكون صناعة، بل ويمكن أن يُزرع في عقول الناس بشكل ممنهج، ليصبح أداة بيد آخرين لمآرب مختلفة، وهذا الغباء المصطنع لا يتعلق فقط بعدم القدرة على التفكير بعمق، بل يشمل التبسيط المفرط، والتعميمات الخاطئة، والانقياد الأعمى، وهذه كلها نتائج لعمليات معقدة تُسهم في تشكيل العقلية العامة بطرق غير واعية.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2017، يُستخدم الإعلام بشكل كبير في ترويج الأفكار المبسطة وتقديم المعلومات بصورة سطحية تفتقر إلى العمق والتحليل، وهذه الظاهرة تُعرف بـ “التبسيط الزائد”، حيث يتم تقديم المعلومات بشكل يمكن استيعابه بسرعة ودون مجهود فكري، مما يعزز من انتشار الأفكار المعلبة والمقولبة، التي لا تتطلب من الفرد التفكير النقدي أو التحليل، وهذا النوع من الإعلام يسهم بشكل كبير في صناعة عقول غير قادرة على التمييز بين الحقائق والتضليل، وتقبل كل ما يُعرض عليها دون أدنى شك أو تساؤل.
السياسات التعليمية تمثل أيضًا عاملًا كبيرًا في هذه الصناعة، حيث أظهرت دراسة من جامعة هارفارد عام 2019، أن نظم التعليم التي تركز على الحفظ والتلقين بدلاً من التفكير النقدي والتحليل المنطقي تسهم في إنتاج أجيال لا تبحث عن المعرفة ولا تتحدى الأفكار السائدة، حيث يصبح الطلاب في هذه البيئة التعليمية أكثر ميلًا لقبول المعلومات كما هي دون محاولات للتحليل أو النقد، وهذه الطريقة في التعليم لا تشجع على الإبداع أو التفكير خارج الصندوق، بل تساهم في تثبيت الأفكار السطحية والبسيطة.
ومن جانب آخر، يلعب الاستهلاك المفرط للتكنولوجيا دورًا في هذه الصناعة، بحسب ما كشفته دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2020، فإن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يُقلل من مدة التركيز والانتباه لدى الأفراد، مما يجعلهم أكثر عرضة لقبول المعلومات السريعة والمبسطة دون التفكير في صحتها أو دقتها، وهذا النمط من الاستهلاك يعزز من “ثقافة الاستهلاك الفوري”، حيث يبحث الأفراد عن إشباع رغباتهم الفكرية بسرعة دون الغوص في عمق الأفكار أو البحث عن مصادر موثوقة.
ولعل الجانب الأكثر إثارة للقلق هو التلاعب السياسي، ففي كثير من الأحيان، يتم استخدام الغباء المصطنع كأداة سياسية لإبقاء الجماهير في حالة من التبعية، غير قادرة على فهم القضايا المعقدة أو تحدي السياسات القائمة، حيث تُستخدم أساليب التضليل وتزييف الحقائق بشكل متعمد لخلق بيئة من الجهل وعدم الفهم، مما يسمح للنخب السياسية بالتحكم في مسار النقاشات العامة وتوجيهها بما يخدم مصالحها، وفقًا لدراسة نشرتها جامعة كامبريدج عام 2018.
لا شك أن صناعة الغباء على هذا النحو السابق تشكل تهديدًا كبيرًا للمجتمعات، كونه يعوق قدرتها على التفكير النقدي والابتكار، ويجعلها أكثر عرضة للتلاعب والسيطرة، وليس من الصعب القول أن الحل يكمن في تعزيز الوعي بأهمية التفكير النقدي، وتشجيع البحث عن المعرفة الحقيقية، والقدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة، ولكن الفهم في كثير من الأحيان لا يجلب الراحة، بل إنه قد يكون سببًا في شعور الفرد بثقل المسؤولية وزيادة التحديات، ولذلك نجد أن الغباء أو التغابي قد يمنح أصحابه شعورًا مؤقتًا بالراحة النفسية أو الطمأنينة السطحية، حيث يهرب الفرد من التعقيد إلى البساطة، ومن المسؤولية إلى اللامبالاة، وهو ما أظهرته نتائج دراسة أجرتها جامعة شيكاغو عام 2016، أشارت إلى أن الأفراد الذين يتبنون مواقف متغابية أو يعمدون إلى تجنب التفكير العميق يعانون أقل من التوتر الناتج عن ملاحقة الحقيقة أو تحليل المعلومات المعقدة، مما يعزز لديهم شعورًا بالراحة المؤقتة والانغماس في عالم خالٍ من التعقيد، ولكن هذه الراحة زائفة، حيث أن العجز عن التعامل مع الواقع كما هو قد يؤدي في نهاية المطاف إلى مشاكل أعمق تتعلق بالقدرة على التكيف والتعامل مع التحديات الكبيرة، مما يجعلهم أكثر عرضة للانهيار عند مواجهة الحقائق غير المريحة.