داود عبد السيد.. سيرة سينمائية عن المخرج “المختلف”
أحمد أبو درويش
يدهشك داود عبد السيد، دائمًا حين تتأمل مسيرته الفنية، فهو المخرج وكاتب السيناريو الفذّ الذي قدم أعمالًا لم يكن لها مثيل من قبل في السينما العربية، بتنويعاته الجريئة ومعالجاته المختلفة، وتوليفة جمعت متناقضاتٍ أحيانًا. فتظهر بساطة التناول في أفلام عدّة وطابع شعبي في كثير من أعماله، وإلى ذلك يظهر الطابع الغرائبيّ في بعضها الآخر.
خلطة داود عبد السيد السينمائية، وتنوعها ما بين الغرائبيّة في أعمالٍ وبين بساطة التناول في أعمال أخرى، تبدو عصيّة على الفهم، وإن كان البعض يعتبرها كضرورة فنية أو كمعالجة مناسبة لطبيعة الحكاية، إلا أنها بشكل مجمل قدمت لنا واحدًا من أعظم المخرجين المصريين.
تتوحد تيم وأفكار داود عبد السيد الفلسفية الدائمة في أعماله، بتقديمه الإنسان المأزوم الباحث عن الحرية والذي دائمًا ما يعاني من صراعات داخلية.
الناقد السينمائي محمود عبدالشكور، نجح في كتابه “داود عبد السيد.. سيرة سينمائية” في تفكيك عالم المخرج المصري، وشرح ماهية الأفلام بالبحث فيما وراء الأفكار والشخصيات وحتى تحليل المشاهد والديكورات والموسيقى، ليقدم تفسيرات حول الأفلام، ويربطها جميعًا بتساؤلات عبد السيد حول الإنسان المأزوم، الباحث عن الحرية، والمراقِب دائمًا إلى أن يتورط ويحصل على حريته. بيد أنه أقرّ قاعدةً في كتابه بأن قانون سينما داود عبد السيد ليس في الإجابات وإنما في طرح الأسئلة، في البحث وليس في الوصول في المحاولة وليس في النتيجة، مؤكدًا أنها سينما مختلفة.
يقول عبدالشكور: هناك دائمًا شيء غير مريح ومقلق في أعمال داود عبد السيد، وأن أفلامه ليست من النوع الذي يقول بأن كل شيء على ما يرام وإنما صنعت لتقول عكس ذلك. وفي هذا المقال سنتتبع ثلاثة من أهم أفلام داود عبد السيد لنحاول فهم فلسفته المختلفة.
الكيت كات.. سيرة عراة وسط الزحام
حقق فيلم «الكيت كات» نجاحًا منقطع النظير، فمن منّا لم يتعلق بذلك الشيخ الكفيف الذي يقود الفيسبا في الحارة الضيقة، بل ويخرج بها على كورنيش النيل بسرعة عالية. استطاع داود عبد السيد في هذا الفيلم تقديم وجبة متكاملة من الأفكار والأسئلة بطريقة كوميدية وشجية في الوقت ذاته. خلطة تكشف عن كاتب ومخرج من طراز فريد. يقول عبدالشكور في كتابه إنها سيرة لعراة وسط الزحام، فالشخصيات التي نراها عارية ومفضوحة، تحاول ترويض الظروف الصعبة.
الشيخ حسني الذي باع بيته بالحشيش. وباع مستقبل ابنه الطامح للسفر، من أجل جلسة أنس، نراه رغم كُفّ بصره، قادرًا على ترويض الحياة، بينما ابنه الشاب عاجز تمامًا عن الحياة. يستطيع الشيخ حسني ببصيرته الفذة، رؤية ما لا يمكن رؤيته، وكشف أسرار أهل حارته، في مشهد أثير وهو يجلس في عزاء عم مجاهد ولا يعلم بأن مكبر الصوت لا يزال يعمل ويحكي ويفضح أسرار شخوص الحارة.
ذلك الكفيف الذي حاور عم مجاهد الميّت، في مونولوج فلسفي عميق بعبارات شاعرية بسيطة، لخص مأساة أهل الحارة وكل حارات مصر التي تضم الفقراء حين قال: «الحكاية مش حكاية البيت، الحكاية حكاية الناس اللي لازم تعيش».
يضيف عبدالشكور: الشخصية هي وسيلة داود لاكتشاف عالم حي «الكيت كات» وشخصياته الكثيرة التي تحاول مقاومة عجزها وبؤسها والتي تعيش يومًا بيوم وتشهد تحولات حقيقية على مستوى المكان والظروف.
رسائل البحر.. الحب محرّر الإنسان
يعتبر فيلم «رسائل البحر»، أحد أهم أفلام داود عبد السيد التي حظيت بجماهيرية واسعة، قدم خلاله وجبة رومانتيكية مستندًا إلى قصة طبيب شاب وسيم يعاني من «تهتهة الكلام» يفشل في العمل بمهنة الطب، فينتقل لمدينة الإسكندرية لجوءًا لجمال المدينة وحنين الذكريات، ليصادف الحبّ. كان تأثر عبد السيد في أحد أهم مشاهد الفيلم برواية «العجوز والبحر» لإرنست هيمنجواي، حيث الشاب الذي يقف أمام البحر الغاضب والرافض أن يمنحه سمكة يأكلها حيث يعاني الجوع والفقر، فنراه متحديًا غضب الطبيعة والأمطار الكثيفة والأمواج العالية، وهو المشهد ذاته الأهم في رواية «العجوز والبحر». لكن معالجة عبد السيد – الذي كتب الفيلم – لم تتوقف فقط عند استلهام مشهد العجوز والبحر، إذ ناقش التغول الماديّ القبيح الذي يداهم عاصمة الجمال الكوزموبيلتان.
اختبر داوود تيماته الأثيرة بنقل بطله من المراقبة إلى التورط والمشاركة، ومن القيود إلى التحرر واكتشاف العالم، ومن العجز والاضطراب إلى محاولة اكتشاف القدرة وممارستها، بحسب رؤية عبدالشكور.
«يحيى» بطل الفيلم الذي يعاني من التهتهة، نراه كراوٍ في الفيلم وفي مونولوجاته الداخلية، يتحدث بلباقة تخلو من التهتهة. ويفسر عبدالشكور الأمر، بأن ذلك له دلالة مهمة، لقد شفته التجربة من هذا الاضطراب المنطوق، وحررته من مصدر السخرية الذي جعله يهرب إلى الإسكندرية. لقد انتقل من العجز على القدرة وصار المراقب – كما في أغلب أعمال عبد السيد – جزءًا من التورط.
لكن الغريب حقًا، هو ما كتبه محمود عبدالشكور، في جملة بديعة تعبّر عن رؤية عميقة لمشهد إجهاض بطلة الفيلم، فيقول: «الإنسان يتحقق في كل الأحوال، من خلال حريته ومن خلال فعل الاختيار والتمسك به، وقبل الاختيار هناك تجربة مؤلمة وشاقة وصلت إلى حد التعميد بالدمّ كما في حالة «نورا» التي تخلصت من الجنين لكي تبدأ حياة أخرى».
يعتقد كذلك أن: «الحب في أفلام داود عبد السيد هو الشيء الوحيد الثابت وسط عالم قلق ومضطرب. الحب هو محرر الإنسان من العجز. وهو خط الدفاع الأخير عن الإنسان في عالم يحاصره فيه الخوف والموت».
قدرات غير عادية.. سؤال الإنسان عن إمكاناته
في فيلمه «قدرات غير عادية»، يبحث داود عن القدرات غير العادية في البشر، ليكتشف بأن كل البشر لديهم قدرات غير محدودة لكنهم يتخلون عنها.
قدّم الفيلم أسئلة، يراها عبدالشكور مربكة: لماذا نتنازل بسهولة عن قدراتنا الداخلية؟ ولماذا نراها في الآخر الذي نفترض فيه القوة بينما نحن أقوى؟ هل الآخر قادر بالفعل، أم لأننا نكتفي بدور «المراقب»؟ لماذا يقنع البشر بأن يكونوا عاديين بينما هم ولدوا مختلفين؟ الكل في الفيلم يبحث عن القدرة لدى الآخر، ويرون في الطفلة «فريدة» هي حلم التعويض للجميع، ولا يفكرون لحظة في أنها «القدرة» موجودة داخل الجميع.
في كتابه الممتع، قدم محمود عبدالشكور إجابات لأسئلة شغلت الكثيرين حول أفلام داود عبد السيد، وخلص إلى أنها دائمًا تبحث عن الإنسان المأزوم في سبيله للتحرر من قيده. مؤكدًا أنها سينما «ثورية». وعلى الرغم من أنها لا تخطب ولا تهتف ولا تتظاهر، فإن ثوريتها نابعة من قدرتها المدهشة على تجسيد تلك الدرجة المفزعة من العجز الإنساني.