مراجعة نقدية لفيلم “ناقة”
سلطان القثامي
يتمحور فيلم “ناقة”، من تأليف وإخراج مشعل الجاسر، حول مغامرة الفتاة «سارة» في نطاق مخيمٍ صحراوي، ذهبت إليه في موعد مع صديقها السري “سعد”، دون علم أهلها، وكانت قد أخبرت والدها برغبتها في الذهاب للسوق على أن يعود إليها في تمام الساعة التاسعة مساء عند الانتهاء من التسوق. وفور وصولها للمجمع التجاري، ذهب الصديقان مباشرة إلى المخيم وسط مخاوف سارة من عدم قدرتها على العودة في التوقيت المناسب. وفي طريقهم إلى المخيم قامت بتعاطي مادة عبر تذويبها في الشاي، يبدو لنا أنها أثّرت في صحتها وقدراتها العقلية. وهنا يجعلنا المخرج في مواجهة شخصية مضطربة، بحيث التبست علينا الأحداث، فلا ندري إن كان ما سيحدث لاحقًا حقيقيًا أو من تخيلاتها. ولا ندري إن كان علينا الوثوق بمنظورها عما تعرضت له في المخيم من أذى نفسي وجسدي.
فبالنظر إلى السياق الاجتماعي والأسري للشخصية الرئيسة في هذا الفيلم، يمكن استنباط عدة حقائق أبرزها أن سارة ناقمة على المجتمع الذي ترعرعت فيه. فهي نشأت في أسرة متشددة ونظام أبوي متسلط. فهي بالأساس ليست على وفاق مع محيطها وثقافته ولا تنتمي إليه فكريًا. لذلك، فالمنظور الذي نتعرف من خلاله على ثقافة ابن الصحراء هو منظور الضحية، وهو منظور جدير بالثقة، ولكن، ومن منظور نفسي، لا يمكن أن نعتد به كرأي وحيد في لحظات النزاع النفسي. في طريقهم نحو المخيم، تصطدم سيارتهم بناقة على وشك الولادة. فتصبح هذه الناقة ناقمة عليهم كما نشاهد في خاتمة الفيلم، لكنها لم تصب أحدًا بأذى.
ما بعد هذا الحادث تتعاقب لقطات مختلفة في الصحراء تعكس عبثية المكان الذي لا يخضع لقوانين. على سبيل المثال، تقف سارة أمام سيارة لبيع الآيس كريم، ثم ترى مجموعة شباب يقودون الدبابات قاموا بالاعتداء على العامل الأجنبي في سيارته، وهو مشهد يجسد فوضى وخطورة المكان على مرتاديه. في المخيم، حيث الوجهة، كان هناك «شاعر نجد» الذي يشتري القصائد بالمال ويقيم الاحتفالات عقب فوزه في مسابقة الشعر، وهناك عالم واقتصاد خفي، فيه عشرات الرجال وبضع نساء.
انتهى بهم المطاف إما إلى الاعتقال أو الفرار عقب مداهمة أمنية للموقع. كانت سارة قد نجت من المداهمة، ولكن نفدت سيارة سعد من الوقود. فقبض عليه، وبقيت سارة وحيدة في مواجهة جديدة مع الناقة الغاضبة. وتتحمّل سارة مخاوفها وهي تتذكر مقولة ذكرتها في بداية الفيلم أن الجمل حقود ولا ينسى عدوه. تحاول سارة التواصل مع صديقتها لإنقاذها لكن تبوء محاولاتها بالفشل. وتستلقي تحت السيارة المتعطلة خوفًا من الناقة الغاضبة. ولكي تنتقم منها، قامت بإعطائها العشب المخلوط بمادة تبدو مخدرة عثرت عليها في رمال الصحراء، ثم تسببت في إجهاض الناقة لمولودها وموتها على الفور.
تعكس لنا تجربة سارة أننا كبشر لسنا سادة عقولنا ولا يمكننا التحكم فيها في كل الأوقات، وبالذات في اللحظات النفسية المؤلمة. كما أظهرت لنا مغامرتها أن الظروف الإنسانية والأفكار والأفعال لا يحركها عقلنا الواعي حصرًا، بل في كثير من الأحيان هي نتاج قوى خارجة عن وعينا. تلك القوى يمكننا فهمها أحيانًا عبر التعبير الفني المتقن. والسينما تبدو في هذا الفيلم كالعملية العلاجية التي تساعدنا على إدراك القوى الخفية التي تموّل صراعاتنا اليومية مع أنفسنا والمجتمع وتحدد مواقفنا من الأحداث. أجاد الفيلم في شكله عدة عوامل أهمها التشويق، ومن عناصره في هذا الفيلم الصراع مع الزمن، حيث تحاول سارة تخطي مصاعب العودة للسوق لتجنب غضب أسرتها. ثم الصوت والإضاءة، حيث تمكن المصور من توثيق الفضاء الليلي في الصحراء وتمايزه بين الهدوء والعنفوان، ولحظات الترقب والخوف المرتبطة به. فيجعلك كمشاهد في حالة قلق كالذي تعيشه الشخصية الرئيسة، وترقب لما سيحدث في النهاية، والتساؤل المستمر إن كانت قادرة على العودة في الوقت المناسب. لذا يمكن القول إن العمل كان متفوقًا في هيكله أكثر من محتواه، إذا أخذنا في الاعتبار أنه تجربة المخرج الأولى مع الأفلام الطويلة.
بالإضافة إلى عدم وجود إرث سينمائي طويل في مجتمعنا يساعد المخرجين في الاستفادة من تجارب سابقة في المجال. لكن عند الخوض في بنية العمل، بالذات في قصته وتصويره لابن الصحراء، يمكن أن نرى بتجلٍّ كيف وقعت قصة المخرج في فخ الاستشراق الغربي من خلال المنهجية التي اتخذتها في تمثيل ثقافة وحياة ابن الجزيرة العربية. فمن بديهيات الاستشراق التي وقع فيها العمل، بوعي أو بغير وعي من صنّاعه، هي إظهار ابن الجزيرة العربية في مظهر الكائن الهمجي أو العنيف الذي يتبع غرائزه فقط ولا يكترث بحقوق الآخرين. وإظهار الجمل، وهو الكائن الأليف لابن الصحراء، بصورة بشعة حقود لا ينسى عدوه يتغاضى عن حقيقة أن الجمل قد يكون أيضًا ودودًا ولا ينسى صديقه. إن الشيطنة المطلقة للجمل هي أحد أساليب المستشرقين في تشويههم للثقافات المختلفة عن ثقافتهم. عندما تأكل سارة من لحم الإبل في إحدى المناسبات تصبح متوحشة. وهذه النظرة للجمل امتداد لنظرة المستشرق الغربي للبدوي، أو ابن الجزيرة العربية بشكل عام. فعندما كره الأوروبيون السكان الأصليين لأميركا الشمالية قاموا بازدراء جواميسهم المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافتهم، ثم قاموا بإبادتها. رمزية الجمل الحقود هي إسقاط على ثقافة عريقة ذات جماليات لا متناهية لم ينصفها الفيلم، ولم يحصر بعضًا منها في مشاهده الكثيرة.