“القبض” على الذكاء الاصطناعى
منصور الجنادي
ماذا لو قبضنا على الذكاء الاصطناعى، وأودعناه السجن، وأرحنا أنفسنا من ذلك الفزع الذى يسببه للكثير من البشر؟
الذكاء الاصطناعى هو أحد أسباب القلق المتنامى فى عالم اليوم، وفقًا لتقرير التنمية البشرية 2023 للأمم المتحدة. لا يقتصر هذا القلق على العامة فقط، بل يمتد إلى المتخصصين، بدليل إجماع خبراء الذكاء الاصطناعى ومبرمجيه ومُمَوِّليه (أمثال زكربرج، إيلون ماسك، إلخ) على ضرورة كبح جماح لعبتهم المفضلة، ومفتاح السُلطة والسُلطان على العالم لسنوات قادمة: الـ AI، أى الذكاء الاصطناعى.
“مبرمجو الذكاء الاصطناعى وممولوه” صاروا هم أولى الأمر فى العالم فى هذه الحالة. ليس رؤساء الدول، ولا الأمم المتحدة، ولا المحكمة الدولية، ولا بابا الفاتيكان، وإنما أباطرة الـ «إى آى» هؤلاء، هم الذين اجتمعوا، وقرروا ضرورة سن قوانين تُنظم الحقوق والواجبات. أين تبدأ حقوق «مستر إى آى»، وأين تنتهى حريته؟، إلى أى مدى مثلًا سَيَحِق للذكاء الاصطناعى الكامن وراء الموبايل أن يسرق عقولنا، ويُسىء استخدام دراساته المتعمقة لأخص مشاعرنا، ويبيع نتائجها للمُسوقين، وربما لمجرمى الحروب؟، وهل سنُعاقِب الآلات الذكية لو ساعدتنا على التخلص من قصر القامة، واكتساب أجساد إسكندنافية، لو «لعبت» قليلًا فى صفاتنا الوراثية؟.
وبما أن إلمام المُشرِّع بواقع الحال شرط لسن القوانين، فقد تولى قسم «الذكاء الاصطناعى الإنسانى» بجامعة ستانفورد الأمريكية، مهمة تسجيل واقع الذكاء الاصطناعى وتطوره، باستخدام ما يسمى «مؤشر الذكاء الاصطناعى» The AI Index. الهدف هو إمداد المشرعين وصانعى القرار والباحثين ووسائل الإعلام، بمعلومات دقيقة شاملة عن الذكاء الاصطناعى، وبتمويل من شركات كبرى مثل جوجل، و«أوبن إى آى» صاحبة «تشات جى بى تى»، وغيرهما.
نتائج التقرير جميعها مهمة، ولكن بعضها طريف، ومثير للاهتمام.
معروف أن الصين، مثلًا، من أكثر الدول استخدامًا للذكاء الاصطناعى فى «التقييم الاجتماعى»، أى للمراقبة الدقيقة، على مدار اليوم، لكل مواطن فيها، من أجل تقييم سلوكه، ما يراه البعض ازدراءً لإنسانية البشر واختصارًا للإنسان فى حفنة أرقام.
هنا كنا نتوقع أن يكون الصينيون هم أكثر الشعوب نفورًا ورفضًا للذكاء الاصطناعى. ولكن المفاجأة هى أن المواطن الصينى هو أكثر مَن يرى الذكاء الاصطناعى بشكل إيجابى، بعكس الأمريكى على سبيل المثال.
ففى استطلاع للرأى، كان الصينيون (بنسبة 78%) هم أكثر الشعوب التى وافقت على أن «المنتجات والخدمات التى يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعى تفوق فوائدها أضرارها». فى المركز الثانى بعد الصينيين جاء السعوديون (76%)، ثم الهنود (71%). أما الأمريكان فكانوا أقل الموافقين على تلك العبارة (35% فقط)، أى أنهم أكثر الشعوب ارتيابًا وشكًا فى فوائد الذكاء الاصطناعى.
وإن كانت تلك هى وجهة نظر الشعوب، فللشركات العابرة للقارات رأى آخر، لأن الذكاء الاصطناعى يساعدها على تعظيم أرباحها، وتوسيع رقعة انتشارها فى العالم، وسيطرتها على الأسواق. كانت الجامعات ومراكز بحوثها دائمًا هى المُخترِع والمُطوِّر للذكاء الاصطناعى، أما منذ 2014 فقد بدأت الشركات تتفوق على المراكز الأكاديمية فى تطوير الذكاء الاصطناعى، وفقًا لمصالحها بالطبع، وفى خدمة «جشع رأس المال والرأسماليين»؟، ربما هذا هو السبب أيضًا فى تسمية جامعة ستانفورد لأحد أقسامها بقسم «الذكاء الاصطناعى الإنسانى»، تأكيدًا على أهمية مراعاة البعد الإنسانى فى تطور الذكاء الاصطناعى. خصوصًا إن عرفنا أن أخلاق «صديقنا الذكى المُصطنع» فى تدهور مستمر. المؤشر العالمى لقياس الانحرافات الأخلاقية للذكاء الاصطناعى (AIAAIC)، يخبرنا بأن سوء استخدام الذكاء الاصطناعى قد تضاعف 26 مرة منذ عام 2012. استخدام تكنولوجيا «التزوير العميق» فى إنتاج فيديو يُعلن فيه الرئيس الأوكرانى زيلينسكى استسلامه، هو فقط أحد الأمثلة على «تدهور أخلاق» الذكاء الاصطناعى، وسلوكه الإجرامى.
لذلك فاهتمام رؤساء الدول، والقادة، ومتخذى القرار بالذكاء الاصطناعى فى تصاعد. وكذلك اهتمام المشرعين المحليين: فى عالم 2016 صدر قانون واحد فقط (على مستوى 127 دولة). أما 2022 فقد ارتفع الرقم إلى 37 قانونًا لتنظيم الذكاء الاصطناعى.
فى مصر، لدينا «الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعى»، والتى، لحسن الحظ، لم تُهمل التخطيط لبناء قدرات الشعب المصرى لمجاراة عصر الذكاء الاصطناعى، وإن كان الحديث عن «نظرية المعرفة» اللازمة لذلك ما زالا غائبًا تمامًا.
سباق مع الزمن، لا نعرف من سيقبض فيه على الآخر. إنسانية الإنسان، أم تحالف السُلطة والتكنولوجيا؟.