آراء

السينما الفلسطينية.. رحلة ثلاث مدن

مشاعل عبدالله

تعتبر السينما أداة من أدوات التعبير الفعالة والمهمة للفنانين. تمنح السينما صوتها للمهمشين والمغلوبين للتعبير عن احتجاجهم وغضبهم، وبذات الوقت تمنح السينما مساحة للأقوى لعرض حكايته كما يحب وحصد التعاطف والتبرير. وأيضًا كجزء من البروباغندا ومثال ذلك جهود موسوليني في حراك السينما الإيطالية حينما أنشأ استوديوهات التصوير في روما عام ١٩٣٧ والتي تم تصوير أكثر من ٣٠٠٠ فيلم داخل جدرانها. تم ترشيح ٩٠ فيلمًا منها للتنافس على الجوائز السينمائية، انتزع نصفها الجوائز من الأفلام المنافسة. تأثرت هذه الاستوديوهات من القصف الجوي إبان الحرب العالمية، وتم تحويلها مؤقتًا إلى مخيم للاجئين من الإيطاليين والجنسيات والأخرى.

يذكر د. نزار الصياد في كتاب «القاهرة السينمائية عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع»، أن الفكرة التي ألهمته إلى إصدار هذا الكتاب هي فرضية كان قد ناقشها مع طلابه في مواد العمارة والتاريخ العمراني، وتحديدًا موضوع المدينة والسينما. كان د. نزار يفترض اختفاء نيويورك ولوس أنجلوس بسبب كارثة طبيعية أو حرب نووية ويكون ما تبقى عن هذه المدن هي الأفلام السينمائية التي أخرجها وودي ألن ومارتن سكورسيزي، ثم يطلب من الطلاب تخيل المدينتين على اعتبار أن الدليل الوحيد هو الصور السينمائية. وأجدني منحازة لقناعة د. نزار عن أهمية السينما والدور الذي تلعبه في كتابة تاريخ المدينة والإنسان والعلاقة بينهما.

فلسطين منطقة ساخنة ليس في الأحداث السياسية، لكن في تعقيدات التاريخ وتقاطع الأديان والحضارات فيها. هذه التعقيدات انعكست حتى في تعريف مفهوم السينما الفلسطينية. هل كل الأفلام التي تنتج عن فلسطين تعتبر فلسطينية؟ تضم السينما الفلسطينية كل الأعمال التسجيلية أو الروائية التي أنتجها العرب الفلسطينيون في بلدهم قبل عام النكبة ١٩٤٨ ومثال ذلك فيلم إبراهيم حسن سرحان التسجيلي ومدته ٢٠ دقيقة عن زيارة الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمة الله – لفلسطين وتنقله بين عدد من المدن الفلسطينية مثل يافا واللد، أو الأفلام التي تناولت قضية فلسطين والشتات بعد عام ١٩٤٨ مثل فيلم «ثلاث عمليات في فلسطين» للمخرج محمد الكيالي عام١٩٦٩. تشمل الأفلام الفلسطينية أيضًا كل الأفلام التي أنتجها عرب ٤٨ الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية طالما كان الفيلم يتناول القضية الفلسطينية. يخرج عن تصنيف الأفلام الفلسطينية كل ما تم إنتاجه من قبل الحركات الصهيونية قبل عام ١٩٤٨.

رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها صناع السينما الفلسطينية، فإن هناك إنتاجًا دراميًا قادرًا على المناسبة وجدير بالمشاهدة، لكنه لا يحظى بالمتابعة من قبل الجمهور العربي باستثناء الأردن التي تنظم عروضًا سينمائية للأفلام الفلسطينية وسط محبي الفن السابع. والجدير بالذكر والملاحظة أن هناك حراكًا نقديًا واسعًا وكتبًا منشورة عن هذه السينما المغمورة للكثير من محبي السينما في العالم العربي.

تتناول السينما الفلسطينية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من منظور إنساني أوسع من ساحات المعركة، وتسقط هذا الصراع على العلاقات الإنسانية. وتحفل هذه السينما بصور متعددة من الرمزيات. سنتناول في هذه المقالة ٣ أفلام سينمائية فلسطينية وإسرائيلية تدور أحداثها في ٣ مناطق مختلفة لنفهم العلاقة بين المدينة بكافة ظروفها والإنسان ونرى انعكاسها.

الفيلم الأول هو فيلم “واجب” من إخراج آن ماري جاسر، عام ٢٠١٧، وعرض في مهرجان تورنتو السينمائي. يتناول الفيلم صراع الأجيال بين الأب وابنه في رحلة توزيع بطاقات دعوة عرس الابنة التي يصر الأب على القيام بها بنفسه؛ لأن هذا ما يحتمه الواجب. الابن شادي مهندس معماري مستقر في إيطاليا وعلى علاقة بفتاة والدها من كبار موظفي هيئة التحرير الفلسطينية. من خلال الحوار نكتشف التباين في الشخصيات والرؤى ويتسرب لنا ماضي العائلة المتمثل في هروب الأم وتخليها عن عائلتها لتبدأ حياة جديدة في أميركا. نرى شوارع الناصرة ومطاعمها، حضور طاغٍ لاستعدادات أعياد الميلاد في أقدم أماكن المسيحية في العالم، طوال الفيلم صوت الراديو والأخبار حاضر، العربي في هذه المدينة متلقٍ ومستمع وليس بفاعل، شعور المقاومة النفسي غائب، فمثلاً الأب لا يعير انتباهًا لخبر قرار وزارة النقل الإسرائيلية إزالة الإعلانات العربية من على الباصات، الأب يصر على عزيمة صديقه اليهودي مما يثير حفيظة الابن؛ لأنه يرى أن هذا التصرف انهزامية وغير أخلاقي، يبرر الأب تصرفه أنه يحتاج التقرب منه للحصول على الترقية من معلم إلى مدير، ويبلغ الصراع بينهما ذروته في النقاش الحاد عن مبررات هذا الطلب. فالابن يرى اليهودي مستعمرًا لا يمكن أن يصبح صديقًا وأن اليهود يتحكمون فيما يتعلمه العرب؛ ولأن فضاء الأب ضيق، فهو لم يخرج خارج حدود الناصرة، فهو لم يكتشف العالم والحياة. يشعر الأب أن غضب ابنه هو غضب الخائف، يشعر أن ابنه يخجل منه أمام حبيبته التي يناضل والدها خارج فلسطين. يعلو صوت الأب، وهو صوت عرب إسرائيل تجاه اتهامات التخوين التي لا تتوقف الفصائل الفلسطينية بقية العرب عن ترديدها أنهم ليسوا بحاجة لترديد خطط العودة لفلسطين لأنهم يعيشون بها في الفعل!

الحديث الذي يدور بين الأب والابن، وأحيانًا الابنة العروس عن الأم الهاربة، يبدو رمزية لفلسطين والوطن، طالما كانت الأمهات رمزية للأوطان في الأدبيات. ينتهي الفيلم بمشهد يحمل الكثير من السلام، وقت الغروب على سطح المنزل تتوسطهم ركوة القهوة وصوت الأذان يلف المكان وشادي يدخن سيجارة طالما لام أباه عليها من باب حرصه على صحته، تبدو السيجارة هنا علامة المصالحة.

الفيلم الثاني هو فيلم “شجرة الليمون”، وهو فيلم إسرائيلي من إخراج عيران ريكليس وإنتاج عام ٢٠٠٨ عن نص للمخرجة والكاتبة الفلسطينية سهى عراف. تبدأ أحداث الفيلم بعد أن ينتقل وزير الدفاع الإسرائيلي إلى بيت مجاور لحقل ليمون تملكه أرملة فلسطينية تدور حياتها حول رعاية هذا الحقل بعد سفر ابنها إلى أميركا وزواج ابنتيها. يبدأ الفيلم بأصوات أذان متداخلة، ونرى صاحبة الحقل تجهز مخلل الليمون، بينما تنصح أجهزة الأمن الوزير بقص فروع أشجار الليمون حفاظًا على أمن الوزير؛ لأن هذه الأغصان تشكل خطرًا على الأمن الإسرائيلي ممثلة في حياة وزير الدفاع؛ لأنها توفر مكانًا قد يختبئ به المقاومون العرب لاغتيال أو إصابة الوزير. الفيلم يتخذ من الحدود الفاصلة بين إسرائيل والضفة الغربية مسرحًا لأحداثه. تقرر مالكة بستان الليمون التصدي لهذا القرار وتصعيد الأمر من خلال رفع دعوى قضائية يتم رفضها، ولكنها تعاود النضال وتتوصل المحكمة إلى قرار أنه بدلاً من إزالة الأشجار يتم تشذيبها وتقصيرها. تسخر البطلة من استماع جيرانها الإسرائيليين لأغاني فريد الأطرش، فهم حسب تجربتها لا يفهمون معاني الكلمات. اللافت أن فريدًا يحظى بشعبية كبيرة بين يهود المشرق لدرجة أن هناك عروضًا مسرحية ترتكز على سيرته الذاتية وحياته، وربما نعزو ذلك إلى علاقته العاطفية مع المطربة الإسرائيلية – الفرنسية مايا كزابيانكا. ينتهي الفيلم ببناء ستار بين الحقل ومنزل الوزير ومشهد واسع للحقل المشذب بدون الثمار، وكأن الفيلم يقول إن الفرد الفلسطيني خاسر على الدوام، وإن أي تنازل تقدمه إسرائيل هو تنازل صوري. خلال الفيلم نلاحظ أن العلاقة بين زوجة الوزير والوزير متوترة بسبب شعورها بخيانته لها مع شابه شقراء ورفضها لقراره بإزالة أشجار جارتهم مما يجعلها تدلي بتصريحات صحفية تجعل الوزير في موقف حرج أمام وزارته. نلاحظ نمو علاقة بين السيدتين، علاقة تعاطف ودعم من خلال نظرات العيون فقط. الفيلم يقدم صورة محسنة عن الإسرائيلي، ورسالة أن الشعب ممثلاً في الزوجة لا تمثله قرارات الحكومة «الوزير» الخائنة. الفيلم حافل بصور وملامح الجدران العازلة والمستوطنات، هنا نتعرف كيف تكون المدينة خلف الجدار!

يأخذنا الأخوان عرب وطرزان ناصر في شوارع غزة من خلال فيلم “غزة مونامور”، لنتعرف إلى حياة مختلفة في فلسطين، حياة شعب يعيش العزلة والأحلام المكبوتة ويبحث عن الحياة خارج غزة. الفيلم مستوحى عن قصة حقيقية لصياد عثر على تمثال أثري تسبب له في مشاكل مع السلطات المحلية. في الفيلم نرى الصياد رجلاً تجاوز الستين يقرر الزواج من جارته في السوق وكأن الحياة في غزة تبدأ متأخرة. الجارة لديها ابنة مطلقة نراها في الفيلم تبحث عن جوازها بكذا مشهدًا، وذلك دلالة على رغم الشباب على الهجرة والهرب من هذا الواقع الخانق، وتعزز هذه الفكرة هجرة صديقه صاحب أحد الدكاكين في السوق. الرموز الدينية حاضرة وبقوة في الفيلم، مثلاً كان حضور الصلاة في ٣ مشاهد، حتى إن الصلاة تجمع السلطة والسجين، وذلك دلالة على أن الهوية الدينية تؤدي دورًا مهمًا في وحدة الشعب مهما تنوعت أدوارهم؛ تعليق أخته على امتناع الملائكة عن الدخول للمنازل التي تحتوي تماثيل، بجانب الهوية الدينية رموز المقاومة وصورها، بالإضافة إلى صورة الأقصى كمقدس ديني حاضرة، فنحن نراها على الجدران ونسمعها في أصوات الإذاعة. في غزة نحن لا نرى مدينة بجمال الناصرة، غزة مدينة الأبنية الإسمنتية غير المكتملة، هي مدينة خانقة على أصحابها حتى في أحلامهم لدرجة أن بطل الفيلم لا يتمكن في منامه من التبول لازدحام الشوارع برجال الشرطة. الشعور بالارتياب والتوتر طاغٍ في الشارع والبيت.

التأثير الصوتي في الأفلام الفلسطينية وحضور الصوت كهوية وشخصية في هذه الأفلام طاغٍ. وأعتقد أن هذا الحضور هو نداء لمنح هذه الأفلام فرصة أكبر للتعرف عليها.

المصدر: سوليوود 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى