آراء

“مندوب الليل” وورطة الإنسان المعاصر

إيمان الخطاف

يحاول فيلم “مندوب الليل” الخروج من القالب المعتاد للأفلام السعودية، فهو يبتعد كثيرًا عن الكوميديا والخيال ويقترب من الواقع إلى درجة تُشعر المشاهد أنه يرى بعضًا منه في فيلم المخرج علي الكلثمي، وهو فيلم يتورط بطله في الاغتراب النفسي، مما يجعله تائهًا في عالم يعج باللامباليين.

يبدأ الفيلم لنجد فهد القضعاني “محمد الدوخي” عالقًا في زحمة الشارع في سيارته ذات الطراز القديم، ثم يتلقى مكالمة من مديره الذي يؤنبه على التأخير، لتتوالى الورطات واحدة تلو أخرى. ومن الطرد التعسفي تبدأ لحظات تمرد فهد الأولى، ليجتمع مع قريبه «أبو سلو»، في مكان قصي عن المدينة، حيث يقول فهد: «تدري إن الرجال يتحوّل، يشوف الشارع يطلع إنسان كويس، يدخل الشركة يطلع إنسان نجس». ثم يرد عليه قريبة: «كلب دوام!».

نظرية “كلب الدوام” تفترض أن الموظف عبد مطيع لرب العمل، وهي شكل متطرف للنظام المهني الحديث، وحين يصل فهد للحظة الاستفاقة هذه يدخل مرحلة عدم الاكتراث تجاه كل شيء؛ يكسر طفاية الحريق على رأس مديره، ويدعو زميلته إلى العشاء، ويتحدى المدير في دورة مياه المطعم.

يغوص الفيلم عبر شخصية فهد في صراع الإنسان المعاصر مع الوحدة والتهميش، حيث كانت ظلمة مدينة الرياض هي رفيقته الوحيدة داخل سيارته الكئيبة، مجردًا من كل شيء، فلا وظيفة ولا حبيبة ولا أموال ولا علاقات أسرية جيدة.

أعادني “مندوب الليل” إلى فيلم العبقري مارتن سكورسيزي Taxi Driver، حين كان روبرت دي نيرو يجوب شوارع نيويورك الحالكة ليكشف ملامح العالم الخفي وراء المدينة النابضة بالحياة، ويلتقي المهمشين ممن لم يتمكنوا من إيجاد بقعة ضوء لهم وسط المدينة الديناميكية المتسارعة، وكلتا المدينتين «نيويورك/ الرياض» ظهرتا ليلاً في الفيلمين، وكلتا الشخصيتين الرئيسيتين «ترافس/ فهد» كانا مضطربين نفسيًا، يعملان برفقة السيارة «سائق أجرة/ مندوب توصيل» ويحاولان مواكبة البشر، بعثراتهم وأخطائهم.

يلعب «مندوب الليل» بذكاء على تناقضات مدينة الرياض ما بين الأبراج الشاهقة والمطاعم الفاخرة وشريحة الموظفين الجدد المنغمسين بأحاديث العمل طوال الوقت، وبين عوالم أخرى تجمع البيوت البسيطة والأخت المكافحة والأب الباحث عن العلاج المجاني؛ هذا النقيض اختصر الكثير من واقع الحياة المعاصرة.

وفنيًا، تمكن المخرج علي الكلثمي من تقديم فيلم سعودي مختلف بكل المقاييس، خاصة في تنويع المساحات، حيث تضيق الكاميرا مع الازدحام والتكدس واللحظات الصعبة، ثم تتسع المساحة بصريًا بشكل كبير مع كل خطوة جديدة يقوم بها محمد الدوخي في دور فهد، الذي قدم انفعالات هادئة معظم الوقت، بحيث تبدو لحظات الغضب واضحة وصادمة أحيانًا.

ورغم صغر مساحة دور محمد القرعاوي في شخصية المدير، فإن تلقائيته الشديدة أعطت روحًا مختلفة في المشاهد التي جمعته مع الدوخي، مما يجعلنا ننتظر القرعاوي بدور أكبر وصراعات مختلفة من نوعها في أفلامه القادمة. كما أن مشاركة الفنان القدير محمد الطويان كانت موفقة في الفيلم إلى حد كبير، بما أظهر تفاوت الأجيال وتعاطيهم مع الصعوبات التي عاشتها الأسرة.

وبعد عروض «مندوب الليل» في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، حان الآن وقت المشاهد السعودي الذي يصفه الكلثمي بالأهم لديه، حيث نترقب صدور الفيلم في صالات العرض قبل نهاية العام الجاري. وأراهن على «مندوب الليل» كثيرًا.. ببساطة هو فيلم يرى فيه المشاهد شيئًا يألفه، قد يتألم وربما ينزعج، لكنه بكل الأحوال يقدم رؤية سينمائية مختلفة.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى