آراء

من ذكريات “دراماتورجي”.. حكاية مع الزعيم

د. أشرف راجح
نحن في منتصف التسعينيات، وبلا موبايلات! وأنا عريس مستجد، عائد في سعادة من الغداء مع زوجتي الحبيبة بالنادي، لأجد الوالدة الوقورة – رحمة الله عليها – واقفة في شرفة المنزل قلقة متهللة وهي تشير بيديها وتتحدث بصوت لاهث متهدج لم أميز منه غير جملة واحدة: “عادل إمام سأل عليك!”.

كنت أكتب في تلك المرحلة دون أن أفكر كثيرًا فيمن سيلعب الأدوار، إلا هذه المرة طاف بذهني “عادل إمام” واستحوذ عليه. حكيت الفكرة لصديق عزيز كاتب وممثل أعرف أنه من جلسائه المقربين، فإذا به يبادر:”الموضوع ده ينفع الأستاذ». وبالفعل بعد أربع وعشرين ساعة وجدت اتصالاً على الخط الأرضي منه شخصيًا بعد الاتصال الأول بالوالدة: «ايه الموضوعات الحلوة دي… عايز أقرأ المعالجة”، وبالفعل أشار بعد قراءة المعالجة إلى شركة أوسكار “وائل عبدالله” بالتعاقد معي. هكذا بدأت رحلة من العشرة الفنية والإنسانية مع الزعيم قاربت العامين. كان يعرض في ذلك الوقت مسرحية “الزعيم” في الإسكندرية ويخصص يوم الإجازة الأسبوعية لتصوير ما تبقى من فيلم “الواد محروس بتاع الوزير” في القاهرة. فصار بيننا لقاء أسبوعي في مقهى “بنت السلطان” المواجه لمنزله القديم لمناقشة ما كتب في خلال الأسبوع حيث كانت ترسل له المشاهد المطبوعة بالقطار. وخلال تلك الفترة أيقنت حجم ما يتمتع به من ذكاء حاد مشمول بذاكرة دقيقة تستدعي بيسر أدق تفاصيل مشاهد ناقشناها سابقًا، هذا إلى جانب ثقافة “سمعية” مبهرة مكتسبة من كل من لاقاهم. إن “الزعيم” يسمع جيدًا.

استقرت مسرحية الزعيم لموسم أخير في القاهرة، وبدأنا نلتقي أكثر وأكثر. صار لي مقعدان ثابتان وقتما أحضر أنا وضيفي في الصف الأول لمسرحية «الزعيم»، ثم مسرحية «بودي جارد» التي تلتها. كذلك وجه بلطف شديد أن أدخل مباشرة إلى غرفته بالمسرح حين أصل. قبل أحد عروض «بودي جارد» دلفت إلى غرفته لأجده يعاني وعكة صحية بالغة، حتى إني شككت في قدرته على أداء العرض في تلك الليلة. جلست وأنا مشفق عليه من جسامة الجهد الواجب بذله، ولكن ما شاهدته كان مفاجأة كاملة بالنسبة لي، إذ قدَّم أداء منطلقًا محلقًا، في عرض شاق يتطلبه الكثير من الحركة والرقص والغناء. وبعد العرض دخلت إلى غرفته أبارك له صنيعه قائلاً: «أنت الليلة كنت كويس قوي»، فأجاب عليَّ بوجه يزدرد ألمًا وشفتان هادئتان: «أنا كل ليلة كويس!». إن «الزعيم» يتسلح بالثقة والمثابرة وليس الغرور.

في أحد الأيام اتفقنا على حضور عرس ابنة المخرج الكبير حسن الصيفي، الذي كان عادل إمام يحمل له كل التقدير والوفاء للفرص التي منحها له في البدايات، وكان العريس والعروس أصدقائي أيضًا. وبمجرد أن استقررنا على مائدة العرس حتى انتشر في الفندق الشهير خبر أن الزعيم في قاعة الأفراح، لتبدأ وفود من الزوار والسياح بالدخول تباعًا لالتقاط الصور معه، أعقبها أرتال من الأسر والأطفال، وكذلك العاملون بالفندق وبالمطبخ و«الشيفات» بغطاء الرأس الأبيض المميز، حتى إنه لم يجلس لدقائق معدودة طوال ساعات العرس، وهو يقف كل برهة ليحتضن المعجبين بلطف ويبتسم للكاميرا ابتسامة صادقة وليست بلاستيكية، بحس إنساني متدفق جعله يقضي أمسية شاقة مع محبيه. هذا بالطبع قبل ظهور النشر على وسائل التواصل الاجتماعي. إن «الزعيم» لا يتعالى أبدًا على جمهوره.

هذه ليست محاولة للإجابة عن سؤال كيف ولماذا صار عادل إمام «زعيمًا»، هذا السؤال الذي هو أكثر اتساعًا وعمقًا من هذه المواقف البسيطة، ولكنها ذكرى فجرت بعض تلك الزوايا الإنسانية الراقية في شخص الفنان الكبير عادل إمام، الذي ندعو له بموفور الصحة والعمر المديد. أمَّا ما حدث لفيلمي بعد ذلك، فربَّما مجاله في مقال آخر.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى