سياسة

من ذكريات “دراماتورجي”.. “احنا التلامذة” في “أوقات فراغ”

د. أشرف راجح

مر ثلاثة وثلاثين عامًا من العمل في المجال السينمائي شهدت أفلامًا تُصنع لأسباب غريبة أو في ظروف عجيبة، وأفلام أخرى توأد كمشروعات لأسباب أكثر غرابة، أو في ظروف قد تكون مأساوية أحيانًا، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن. حكايتنا اليوم عن فيلم صنع بالحب. الزمن منتصف الألفية الأولى، والمكان شركة «جود نيوز» للإنتاج الفني، أدخل من الباب، فتحيل إليَّ السكرتيرة عددًا كبيرًا من السيناريوهات ومشروعات الأفلام التي ترد إلى الشركة يوميًا من أفراد أو شركات، أحملها إلى الداخل لأتقاسمها مع الزملاء من مستشاري الدراما بالشركة، لأجد من بين تلك الملفات كراسًا مدرسيًا عاديًا لتلميذ في الثانوي. عدت إلى السكرتيرة معتقدًا أنه قد تم إدراجه عن طريق الخطأ، فابتسمت لي في خجل مؤكدة أن هناك ولدين قد أحضرا لها هذا الكراس وألحا عليها بالرجاء في قبوله. وبدافع الفضول شرعت على الفور في إلقاء نظرة متخوفة عليه من ضعف ما نتلقى من مشروعات وسيناريوهات أحيانًا، لأفاجأ بنص مسترسل يختلط فيه العامي بالفصيح، مليء بالأخطاء الإملائية، ولكن… به شخوص حية لمراهقي الألفية الجديدة الذين لم يظهروا على الشاشة أبدًا، وحوار به موهبة واضحة. انتهى دوري الفاعل في الحكاية عند هذا الحد بأن أحلت النص إلى المنتج الكبير حسين القلا الذي كان يشغل المستشار العام للإنتاج بالشركة، وشاهدت ما جرى بعد ذلك بسعادة.

كان حسين القلا بحكم موقعه في الشركة يعلم أن هذا الكيان الكبير الذي ينتج من الأعمال أضخمها لن يلقي بالاً إلى فيلم صغير يتحدث عن حياة الصغار. اهتم حسين القلا هذا المنتج الكبير الذي قدم عددًا كبيرًا من روائع السينما المصرية بحسه السينمائي الراقي بالموضوع بعد قراءته، وأدرك ما به من شأن يمس الواقع، بل وقرر أن ينتجه شخصيًا. وجلب الشابين الصغيرين محمود محمد وعمر جمال «أصحاب الكراسة»، وأحالهم إلى كاتب السيناريو القدير ناصر عبدالرحمن زميلنا في الشركة الذي تولى بكل الحب إرشاد الكاتب الشاب عمر جمال الذي كتب السيناريو والحوار للفيلم، وجلب للفيلم المخرج محمد مصطفى ذا الخبرات العميقة في الصناعة كأشهر مخرج مساعد في أعمال كثيرة، ليكون هذا الفيلم باكورة إخراجه. وبالطبع استعان بمجموعة كاملة من الوجوه الجديدة كانت أشهرهم نسبيًا – آنذاك – الفنانة راندا البحيري، واشتهر منهم بقوة بعد ذلك الفنانون أحمد حاتم وكريم قاسم وعمرو عابد.

الفيلم يجسد لحظة تاريخية واجتماعية خاصة في منتصف عقد تميز بالركود الذي يغلب على حكم طال أمده، قبل أن يتصاعد الأمر معه إلى حراك قاد بعد انتهائه إلى ثورة 2011. يتناول الفيلم حياة مجموعة من الأصدقاء متبايني المستوى الاجتماعي والاقتصادي منهم الغني ومنهم الفقير، وبينهم المتحرر، أو المتزمت دينيًا، وهم جميعًا يعيشون حياة يسودها الاضطراب وتداخل المفاهيم، والتأرجح ما بين اتخاذ قرار ما وتنفيذه، ثم التراجع عنه سريعًا وهكذا.. يحاول هؤلاء الشباب تحقيق أحلامهم، ولكن يعوقهم غالبًا التردد، والركون إلى تلك الساحة الجافة من أي ثمار للخيال، محتجزون في عجلة الملاهي، يدورون بها من البداية إلى النهاية.

الفيلم يبدأ بعدد من الشباب يمزحون في عجلة الملاهي. إنهم ثلاثة من الشباب في المرحلة الجامعية، يمثلون مستويات اجتماعية متقاربة مع بعض الفوارق المادية بينهم، فالأول أحمد «عمرو عابد» شاب طائش متذبذب بين الاهتمام بدراسته وإتمامها، وبين ما يراه من حال أخيه الأكبر عبدالرحمن، الذي تخرج وأدى الخدمة العسكرية، وبقي يبحث عن عمل، وما زال يأخذ مصروفه من والده مثله تمامًا، أمَّا والده الموظف فهو حريص على ألا يتأخر ليلاً، ويدعوه دائمًا ألا يرسب مرة أخرى، دون أن تكون بينهما أي لغة مشتركة للحوار، أو حد أدنى من التفاهم. أحمد على علاقة عاطفية مع طالبة الطب مي، التي تعلم كل عيوبه، وتراهن نفسها على إصلاحه. والثاني عمرو «كريم قاسم» يعيش مع والدته وأخته الصغرى بعد أن تركهم والده وتزوج بأخرى، وأصبحت صلته بهم، هي مجرد إمدادهم بالمال. وعمرو طالب بكلية الهندسة بناء على رغبة والده، أمَّا هو فأحلامه كانت الالتحاق بكلية الإعلام. يتمرد عمرو ويقرر تحويل أوراقه من الهندسة إلى الإعلام. يساعده خاله على الالتحاق بإحدى الصحف للتدريب، ليجد عمرو نفسه في النهاية عالة على الصحيفة بلا أي عمل.

يستمر عمرو في قضاء «أوقات فراغه» مع أصدقائه بتدخين المخدرات وممارسة الجنس مع العاهرات، ولعب الكرة بالنادي، والمكوث أمام التليفزيون أو الكمبيوتر. والثالث حازم «أحمد حاتم» هو من طبقة أكثر ثراء، والده الطبيب مشغول دائمًا بين المستشفى والعيادة، ووالدته سيدة مجتمع تقضي أوقاتها في أنشطتها. يمتلك حازم السيارة الفاخرة، والنقود، ومفاتيح الشقة التي يستخدمها مع أصدقائه في جلب العاهرات. حازم في علاقة عاطفية مع منة «راندا البحيري» زميلته في كلية التجارة، وهو لا يعلم بدقة إن كان يحبها أم مجرد يقضى «أوقات فراغه» معها، وهي الأخرى طائشة مترددة تأخذ القرار سريعًا، وتتخلى عنه بطريقة أسرع، لا تعرف ماذا تريد بالضبط، تسمع درسًا دينيًا، فتقرر ارتداء الحجاب، وتطلب من حازم تحديد العلاقة بينهما، إما بالخطبة أو الانفصال، ولكنها في يوم آخر تخلع الحجاب لتحتفل مع أصدقائها بعيد ميلادها، فيقع معها في المحظور، ثم يتخلى عنها بدعوى أنه لا يتزوج ممن أخطأ معها قبل الزواج. تضطر منة للبوح بسرها لشقيقتها التي تبلغ والدها الذي يلجأ للشرطة، فيتم الصلح ويتزوج حازم من منة في قسم الشرطة. ولكن حازمًا يشعر بأن منة أجبرته على تلك الزيجة فيطلقها. يُضبط أحمد وهو يدخن البانجو في الطريق مع صديقه شادي، فيقبض عليهم ويحتجزون في القسم، ولكن اللواء خال شادي يخرجهم من الحجز. يقوم والد أحمد بطرده من المنزل، وتعلم مي بتعاطيه للمخدرات، فتقطع علاقتها به. يستعير مفتاح شقة حازم، حلاً لمشكلة الإقامة، ويبحث عن عمل فلا يجد، فيضطر لمصالحة والده ويعود للمنزل خاضعًا.

يجتمع الأصدقاء الثلاثة أحمد وحازم وعمرو ومعهم صديق رابع هو طارق في سيارة حازم مع عاهرتين، وينزل طارق من السيارة لإحضار الخمور اللازمة للسهرة، فتصدمه سيارة ليلقى مصرعه فورًا، وهو يستغفر خوفًا من سوء المصير. يصدم الأصدقاء الثلاثة من رهبة الموقف، ويقلعون تمامًا عن الرذائل، فيرتادون المساجد للصلاة، ويستمعون للدروس الدينية بالتليفزيون. يتقدم لمنة عريس آخر فيندم حازم ويشعر بحبه لمنة، ولكنه يعلم أنه قد فقدها للأبد بعد أن تركته مع عريسها الجديد. بعد فترة يصيبهم الملل، فيعودون للقاءات والتدخين واللهو البريء، ليركبوا العجلة الدوارة بالملاهي، التي تتعطل بهم وهي في قمة الصعود لأعلى، ومع طول الوقت يبدؤون في النداء، ولا يستمع أحد لاستغاثتهم. إنه صوت الشباب الذي يئن، فإذا لم يستمع إليه المجتمع جيدًا تكون العواقب وخيمة.

في الخمسينيات من القرن الماضي أثار الرأي العام في مصر ما عرف بـ«جريمة البار»، وهي تلك الجريمة التي تورط بها عدد من الشباب «الجامعي» في سرقة وقتل مالك إحدى محلات تقديم المشروبات الكحولية، وكان من بينهم شاب غر أصبح بعد خروجه من هذه السقطة بسنوات فنانًا قديرًا، هو الفنان سامي سرحان. ولكن من وحي تلك الواقعة خرج فيلم كبير من كلاسيكيات السينما المصرية، هو فيلم «احنا التلامذة» الذي تشارك في صياغة قصته السينمائية الكاتب كامل يوسف والمخرج توفيق صالح، وكتب السيناريو له الأديب الكبير نجيب محفوظ، والحوار للكاتب المخضرم محمد أبو يوسف، وأخرجه عاطف سالم عام 1959، وكان من بين أبطاله الشقيق الأكبر لسامي سرحان، وهو النجم شكري سرحان.

يدور الفيلم حول ثلاثة «تلاميذ» هم حسنين وعادل وسمير، ولكل منهم مشكلة. فحسنين يأتي إليه عمه من الصعيد ليذكره بضرورة الثأر ممن قتلوا أباه وإلا قاطعه. يرفض حسنين طالب الحقوق أن يرتكب هذا الفعل، ويرتمي في أحضان جارته الراقصة جمالات لتنفق عليه، كما يلجأ إلى النصب على زميله سمير، ولعب القمار أيضًا لتدبير نفقاته. أما عادل، فهو الابن الأكبر لموظف بسيط يتعرض لسخرية واستهزاء والده الدائم بسبب رسوبه في الكلية عامًا، فيفقد الثقة بنفسه، ويحب جارته سهام، لكن أباها يرفض أن يزوجه منها، ويطرده من المنزل. وسمير الذي يعاني من إهمال أبويه له بعد أن انفصلا، وتزوج كل منهما بطرف آخر. يعود سمير ليلاً بعد شربه الخمر لأول مرة مع أصدقائه حسنين وعادل في منزل الراقصة جمالات، ليلتقي الخادمة التي يحبها سعدية «زيزي البدراوي» لقاء جسديًا، فتحمل. اجتمع الثلاثة لبحث مشكلاتهم، وكانت الأولوية لمشكلة سعدية، وفكروا في إجهاضها عن طريق داية. أعاقهم المبلغ المطلوب، فسرق سمير إسورة أمه وباعها، ولم يكفِ المبلغ، فاقترح حسنين تنميته بلعب بعض القمار، ولكنه خسره في بار كوستا. يعودون إليه ليقتلوه، ويسرقوا الخزينة، بعد أن اتفقوا مع الداية على إجراء العملية في منزل جمالات. ولكن سعدية تموت أثناء العملية، ويتم القبض عليهم ومحاكمتهم، ومعهم الراقصة جمالات والداية. إنهم ثلاثة من الشباب المضطرب اختلفت ظروفهم التي أدت بهم في النهاية لارتكاب الجريمة. وينتهي الفيلم بصوت الراوي المهيب الإذاعي الشهير «جلال معوض» الذي بدأنا معه الفيلم، وهو يشرح من خلال عباءة المحامي «كمال حسين» ما بالقضية من خلل اجتماعي عميق قاد هؤلاء الشباب إلى الانحراف.

الفيلمان متشابهان في الكثير من العناصر البنائية ظاهريًا سواء في رسم الشخصيات، وكذلك في بعض الأحداث، أو في ملامح الآفات الاجتماعية التي قادت هؤلاء الشباب أو أولئك إلى النبذ وبالتالي الانحراف. ولكن الاختلاف في منظور الطرح واضح بين فيلم كلاسيكي منتظم البناء في صلابة ورسوخ، يصل بالدراما إلى قاع الجريمة المظلم، ليجد لها خاتمة يقينية؛ وفيلم آخر أكثر حداثة وتفككًا، يتحرك بنا على مناطق أوسع من عدم اليقين، فيبقي الشباب معلقين في الفراغ. والعودة في الخاتمة إلى نفس النقطة يوضح الفارق أكثر مما يوحي بالتماثل. فهو نفس الفارق بين صوت جلال معوض الرصين الواثق في خاتمة «احنا التلامذة»، وغناء مروان خوري الرقيق المعذب في أغنية الختام في فيلم «أوقات فراغ» منشدًا لكلمات عبدالرحمن الأبنودي: «بنلف في دواير والدنيا تلف بينا… دايما بننتهي لمطرح ما ابتدينا… طيور الفجر تايهة في عتمة المدينة… بتدور».

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى