آراء

دماء الشاشات

تركي صالح

“لا أخبار هذه الليلة، ليلة سعيدة”.. هكذا تحدث مذيع راديو «BBC» في مساء 18 أبريل عام 1930. هذا اليوم الذي مر عليه 93 عامًا لم يتكرر منذ ذلك الحين، لقد غرق العالم قبله وبعده في حروب وصراعات ولدت انفصالات واندماجات لحقها انفصالات وتقسيم المقسم وتقاتل الأصدقاء وتحالف الأعداء، وغرقت أمم كانت مستقرة في صراعات ودماء، ودخلت بعدها القارة العجوز في حرب عالمية ثانية، تبعها العالم كله في هذه المهزلة التاريخية التي خلفت ضحايا وجروحًا ودمارًا وتاريخًا من المؤامرات والغدر والانتهاك الممنهج للضحايا.

كل هذا الدمار انعكس على الحياة في كافة مظاهرها، فانتقلت الآداب والفنون تبعًا لذلك إلى صفوف الجيوش وتعسكرات السينما في معسكرات الحرب الباردة، واختفت أو تضاءلت الرؤية الفنية المجردة أو سينما المتعة، لتصبح الكاميرا مسدسًا ينفذ في قلب العدو. تلك المنهجية، وإن كانت غير مباشرة ولم يتم التحقق منها، هي مطروحة في العلن.

ففي سلسلة أفلام “Rambo” للنجم سيلفستر ستالون على سبيل المثال “تلك السلسلة التي صورت معاناة جندي أميركي بعد حرب فيتنام”، كانت صورة الأميركي البطل الخارق هي الرسالة الأسمى للفيلم “بحسب أغلبية من النقاد”، لكنها في نفس الوقت أظهرت العنف في أبشع صوره سواء عنف مجتمعي أو قتال دموي. وصور الفيلم تلك المعاناة وذلك العنف بشكل يظهر البطولة ويثير التعاطف، هذا التعاطف الذي يتحول إلى إعجاب يلهب عواطف المراهقين ويثير حماستهم لخط طريق يشبه البطل الأميركي الخارق. بهذه الطريقة تحول الفيلم من التأثر بالواقع ونقل أحداثه إلى تنمية هذه القصص، وخلق من خلالها صورة البطل الأميركي الذي أثر كثيرًا في شريحة كبيرة من شباب العالم، وأصبح لاحقًا أيقونة.. وهكذا، فقد تحول الفيلم إلى أداة مباشرة في الصراع.

لقد مر على الكثير منا قصص أبطال الرياضات القتالية الذين تأثروا في شبابهم بشخصية رامبو، لكن في قالب آخر الكثير من قصص العنف التي تولدت أفكارها من “رامبو” وغيره من شخصيات هوليوود.

لقد اشتهرت هوليوود بأفلام الرعب والإثارة البوليسية، لكن أحدًا لم يتوقع أن رؤية المخرج الجريء أوليفر ستون في أقوى تجاربه «ولدوا ليقتلوا» عام 1994 ستأخذ طريقها إلى الشارع الأميركي لتنافس السينما في إنتاج وإخراج أكثر أفلام «القتل الجماعي» دموية وتعبيرًا عن مجتمع يعاني من أزمات عميقة تبدأ بالهوية ولا تنتهي بغياب الأمل وضياع الحلم «الإشارة للحلم الأميركي الذي هو مثال جيد لكل أحلام العالم بعد الحرب العالمية الثانية».

تتابعت الجرائم الجماعية في شوارع وأحياء العالم في فترة متقاربة، لكن أشهرها وأكثرها قربًا من أجواء السينما واتهامًا لها بالتأثير فيه، هي مذبحة فندق «وكازينو ماندلاي باي» بمدينة لاس فيجاس الأميركية الحادث الأشهر الذي دفع مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» لإجراء دراسة دقيقة عن الظاهرة، عرض خلالها بانوراما مفزعة عن جرائم القتل الجماعي التي اجتاحت الشارع الأميركي. وكان بطل مذبحة عام 2017 هو المواطن ستيفن بادوك الذي حضر مهرجانًا موسيقيًا وفتح النار على الضيوف من شباك غرفته بالفندق المطل على المهرجان، مما أسفر عن مقتل 58 شخصًا وإصابة أكثر من 500 آخرين، وعقب ارتكاب الجريمة انتحر الجاني.

إن الدمار الذي لحق بالشخصية المدنية عبر تاريخ من الصراعات ليس بالأمر الهين، ولو اتهمت السينما بالمشاركة فيه فإنها – وإن لم تطالب بالعلاج – من أهم الأدوات التي تجلب العزاء في هذا العالم المخيف؛ هذا العزاء الذي يمهد الطريق لأرضيات مشتركة، فلم يعدم العالم مبدعين يقومون بدورهم، ولن يغمر الظلام وإن عم نور الشمس، ولن يتعب الحق في رفع يده أو صوته أو الحفاظ بإيمانه بالخلاص في صميم نفسه في أحلك الظروف.

فسينما العنف، وإن كانت الأكثر رواجًا والأعلى إيرادًا، فإنها الأوجب عناية واهتمامًا لتجنب تحولها من متعة الحركة وإثارتها إلى تنمية ثقافة العنف في مجتمعاتنا المسالمة والمتوائمة والمحافظة على عمق التلاقي والمشاركة والتعايش.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى