رحيل القاضي الشاعر… محمد الهويش يترك فراغًا لا يملأه سوى التاريخ
الترند العربي – متابعات
في لحظة تختلط فيها الدهشة بالحزن، وتُطوى فيها صفحة رجل لم يكن مجرد اسم عابر في ذاكرة الوطن، رحل الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش، القاضي والشاعر والإداري والإذاعي، الرجل الذي جمع النقيضين باقتدار: صرامة القضاء ورقّة الشعر، حكمة الفقيه وشفافية الأديب، وقوة الموقف ولين القلب. رحل الجسد، لكن السيرة بقيت، والصوت بقي، والقصائد بقيت، والذكريات بقيت، وكأن الرجل لم يغادر، بل اكتفى بأن ينتقل من حضورٍ إلى حضورٍ أوسع، حيث يكتب التاريخ ما يعجز البشر عن كتابته.
هذا المقال الممتد يحاول أن يروي سيرة رجل لم يكن مجرد قاض، ولا مجرد شاعر، ولا مجرد صوت إذاعي، بل حالة إنسانية كاملة تركت أثرًا في كل من عرفها، واستقرت في ذاكرة جيله والأجيال التي تلته، حتى باتت سيرة الشيخ الهويش جزءًا من الوجدان الثقافي والاجتماعي السعودي.

الطفولة التي صاغت رجلاً
ولد الشيخ محمد الهويش في شقراء، في بيئة بسيطة لكنها مشبعة بالقيم، وتلقى أولى صدمات الحياة مبكرًا حين فقد والدته وهو في الخامسة من عمره. ومع ذلك، لم تُخلّف هذه الصدمة انكسارًا داخله، بل صنعت في قلبه رهافة إحساس لا تتكرر، وعزّزتها رعاية والده وحنان عمّته “دليل”، التي يُجمع أفراد الأسرة على أنها كانت الأم الثانية التي لم تلد، لكنها احتضنت وكبرت وربّت وصنعت أثرًا.
في تلك البيئة الريفية، بدأ وعي الطفل يتشكل. كان يرى في والده مثال الصرامة والعدل، وفي عمته مثال الحنان والحكمة، وفي الحياة درسًا مبكرًا مفاده أن الألم لا يمنع المسير، بل يوجّه المسار ويمنح صاحبه حساسية مضاعفة تجاه الناس.

البدايات العلمية… موهبة تظهر مبكرًا
التحق بدار التوحيد في سن مبكرة، وهناك بدأت ملامح نبوغه تتجلى. لم يكن مجرد طالب مجتهد، بل كان عقلًا متسعًا، حاضر الفهم، سريع الالتقاط، قوي الذاكرة. زملاؤه يذكرون حتى اليوم أن الشيخ الهويش كان يقرأ نصًا واحدًا فتلتصق جمله في ذهنه التصاقًا لا ينفك، وأن أساتذته كانوا يقولون إن هذا الفتى سيكون له شأن كبير.
تخرج من دار التوحيد، والتحق بكلية الشريعة في مكة المكرمة، فكان الأول على دفعته، وهو التفوق الذي سيظل ملازمًا له في كل محطة علمية ومهنية لاحقًا. ثم حصل على الماجستير من المعهد العالي للقضاء، برسالة علمية أصبحت مرجعًا في بابها، ورغم مرور سنوات طويلة عليها، لا يزال الباحثون يعودون إليها لما فيها من دقة وتوثيق واستدلال.

بين التعليم والقضاء… بداية المسار المهني
بدأ الشيخ حياته العملية مديرًا للتعليم في محافظة الخرج، وهو منصب يحتاج إلى شخصية إدارية قوية، لكنه كان بالنسبة للهويش مرحلة قصيرة، لأن قدَر الرجل كان مكتوبًا للفصل في الخصومات، لا لإدارة المدارس. سرعان ما انتقل إلى ديوان المظالم ليبدأ مسارًا قضائيًا طويلًا، تميز فيه بالحزم العادل، والإنسانية الهادئة، والقدرة على تفكيك أعقد الملفات، واستحضار أعمق القواعد الفقهية والقانونية.
وفي الديوان، عمل إلى جانب شقيقه عبدالعزيز، الذي كان له في قلبه مكانة لا تضاهى. وعندما أصيب الشقيق بمرض في الكبد ثم فارق الحياة، تأثر الشيخ محمد تأثرًا بالغًا، إلى حد أن مكتبه الذي كان يشترك معه في الديوان أصبح مكانًا مربكًا لوجدانه، فطلب الانتقال، مؤمنًا أن القلب أحيانًا يرفض الأماكن التي تحمل أثقال الذاكرة.

الصعود إلى القمة… قاضي التمييز ثم رئيس محكمة التمييز
بعد مسيرة طويلة كمفتش قضائي، تدرّج الشيخ حتى أصبح قاضي تمييز، وهو أعلى منصب قضائي يصل إليه عادة أصحاب الكفاءة العالية والخبرة المتراكمة. وفي هذه المرحلة، برز اسم الهويش كمرجع في الاجتهادات القضائية، وتبوأ منصب رئيس محكمة التمييز، وهو المنصب الذي يضع صاحبه في قمة الهرم القضائي.
كان يحظى بتقدير كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم الملك سلمان – حين كان أميرًا للرياض – الذي قال عنه عبارة خالدة:
“والدك له آراء قضائية متميزة يتفرد بها.”
وهي شهادة عظيمة تكشف مكانة الرجل العلمية ودقة اجتهاده وفرادته الفكرية.
الشاعر الذي لا يغيب… 70 ألف بيت في الذاكرة
على الرغم من مسيرته القضائية الثقيلة، لم يغادر الشعر وجدانه يومًا. كان يحفظ أكثر من 70 ألف بيت، ويحفظ دواوين كاملة، ويتلو الشعر ببلاغة وإحساس نادر. لقب في شبابه بـ“شاعر الدار”، وكان يلقي قصائده أمام الملك فيصل، الذي أعجب ببيته الشهير:
وإذا أراد الله نهضة أمةٍ
أخذ البنون بخطة الآباء
ذلك البيت وحده يكفي ليصف عقل الرجل: شاعر، وقاضٍ، ومربٍ، ومفكر، يجمع بين الأدب والحكمة في كلمة واحدة.
الإذاعة… حين يصبح الصوت ذاكرة وطن
رشّحه الملك فيصل للإشراف على برامج إذاعة القرآن الكريم عام 1384هـ، وهو اختيار يعكس ثقة الدولة في هذا الرجل، الذي واصل الإشراف بروح المربي والإداري والصوت الهادئ الحكيم. وعندما اشتد به المرض، تولى ابنه يوسف المهمة، لكنه ظل يستلهم من والده دقة الملاحظة وحس المسؤولية، وهو ما اعتبره الابن “الإرث المهني الأثمن”.
المرض الطويل… وصبر الجبال
قبل عام 1420هـ، أصيب الشيخ بتليف شديد في الكبد، وخضع لعملية زراعة ناجحة في الولايات المتحدة، لكنه ظل يعاني من تبعات المرض حتى عاد إليه مجددًا في سنواته الأخيرة. دخل المستشفى نحو شهر كامل، ثم توفي بهدوء في يوم الاثنين 26 جمادى الأولى 1447هـ.
كان المرض ثقيلًا، لكن الرجل كان أكبر منه، صابرًا، راضيًا، مُحتسبًا، إلى آخر لحظة.
والد لا يُعوَّض… وإنسانية لا تتكرر
من كلام أبنائه، ومن شهادات كل من عرفه، كانت شخصية الشيخ محمد الهويش أقرب إلى القدوة الأخلاقية منها إلى مجرد شخصية عامة.
كان كريمًا لا يرد سائلًا.
كان شديد الحياء، لا يعلو صوته.
كان لا يرضى بالواسطة، ولا يستخدم منصبه لمصلحة شخصية.
كان يذهب لقضاء الحوائج بنفسه، ولا يكلف أحدًا بذلك.
كان إذا جلس في مجلس، أنصت الجميع، لا بقوة صوته، بل بسلطان شخصيته وعمق علمه.
رحيل يهز القلوب… ويبقى في الذاكرة
برحيل الشيخ الهويش، فقدت السعودية واحدًا من رجالها الذين صنعوا بصمتهم في الظل، بعيدًا عن الأضواء، وأثرهم في حياة الناس أكبر مما يظهر في الصحف. كان رجلًا لا يشبه إلا نفسه، يجمع بين قاضي العدل، وشاعر الذائقة، وإداري الحكمة، ومربي الأبناء، وصوت الإذاعة الذي رافق ملايين المستمعين.
من حديث ابنه يوسف… شهادة الابن عن الأب
في حديثه لـ“سبق”، روى الدكتور يوسف الهويش تفاصيل مؤثرة عن والده، عن طفولته، وعن مرضه، وعن اللحظات التي شكّلت شخصيته، وعن قيمه ومبادئه التي لم تتغير رغم المناصب. وختم حديثه بدعاء مؤثر:
“نسأل الله أن يغفر له، ويجعله في عليين، وأن يجزيه عن علمه ومواقفه خير الجزاء.”
سيرة تمتد عبر الأجيال
سيرة الشيخ محمد الهويش ليست مجرد سجل وظيفي أو إنجاز علمي، بل مدرسة كاملة في الأخلاق، والانضباط، والعدل، والإنسانية. إنها سيرة رجل لا يتكرر بسهولة، رجل عاش ليترك أثرًا، ورحل ليبقى في القلوب.
صوت يبقى… وإن انقطع الجسد
ستبقى قصائده، وصوته في الإذاعة، ومواقفه في المحاكم، وأحاديثه في المجالس، شاهدة على أنه من القامات التي لا تموت، بل تنتقل من حياة إلى حياة أوسع.
ما الذي ميّز الشيخ الهويش كقاضٍ؟
تميز بالدقة، والإنصاف، والهدوء، والقدرة على استنباط الأحكام من أصولها، وبناء اجتهادات قضائية نادرة.
هل كان الشعر جزءًا من شخصيته؟
نعم، كان يحفظ آلاف الأبيات، وكان شاعرًا بالفطرة، وقد ألقى قصائده أمام قادة البلاد.
كيف كانت علاقته بالإذاعة؟
أشرف على برامج إذاعة القرآن الكريم، وترك فيها بصمة واضحة.
ما أهم ملامح شخصيته الإنسانية؟
الكرم، الحياء، التواضع، الحكمة، والقدرة على التأثير دون صراخ.
كيف يتذكره أبناؤه؟
يتذكرونه أبًا ومربيًا وقدوة، وصوتًا لا ينسى، وإنسانًا في كل معنى الكلمة.
اقرأ أيضًا: مهرات تتلألأ في سماء ديراب… انطلاقة استثنائية لعرض جمال الخيل العربية بمشاركة قياسية وذكاء إنتاجي غير مسبوق

