لعبة المال

عمر غازي
في عام 2008، بينما كانت الأسواق المالية تنهار والبنوك تعلن إفلاسها، كان وارن بافيت، أحد أغنى رجال العالم، يجلس بهدوء يراقب المشهد دون قلق، على عكس الملايين الذين فقدوا وظائفهم ومدخراتهم، كان بافيت يرى الأزمة فرصة، خلال الأشهر التالية، استثمر مليارات الدولارات في شركات منهارة، وبينما كان العالم يعاني، كان ثروته تتضاعف، لم يكن ذلك ضربة حظ، بل فهمًا عميقًا لقواعد لعبة المال، فالمال ليس مجرد ورقة نقدية، بل منظومة تحكمها استراتيجيات من يفهمها يكسب، ومن يجهلها يبقى عالقًا في دوامة العيش من راتب إلى آخر.
إدارة المال ليست مهارة فطرية، بل لعبة لها قواعد واضحة، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2021 أن 80% من الأشخاص الذين يعانون من الأزمات المالية بشكل متكرر لا يعانون بسبب قلة الدخل، بل بسبب سوء الإدارة المالية، فالأمر لا يتعلق بكمية المال التي تكسبها، بل بكيفية استثماره وتحريكه داخل النظام الاقتصادي، المال الذي لا يتحرك يفقد قيمته، تمامًا كالماء الراكد، فهناك من يكدس المال في حساباته البنكية دون استثمار، وهناك من يدير أمواله بذكاء، فيجعل المال يعمل لصالحه بدلاً من أن يعمل هو من أجل المال طوال حياته.
هذه اللعبة تعتمد على ثلاث قواعد أساسية: الإدخار الذكي، والاستثمار المستمر، وفهم قيمة الوقت، فبحسب تقرير صادر عن مؤسسة “فيديليتي” عام 2020، فإن الأشخاص الذين يبدأون بالاستثمار في العشرينيات لديهم فرصة لتحقيق ثروة تفوق نظراءهم الذين يبدأون في الثلاثينيات بنسبة 70%، لأن المال ينمو عبر الزمن، بينما من يؤجل الاستثمار يكتشف لاحقًا أنه يطارد قطارًا انطلق منذ سنوات، ففي عالم المال، ليس الذكاء وحده ما يصنع الفارق، بل توقيت اتخاذ القرارات.
لكن لماذا يفشل الكثيرون في هذه اللعبة؟ السبب الرئيسي هو أن معظم الناس لم يتعلموا أساسيات الإدارة المالية، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عام 2019 أن 60% من الأشخاص لا يمتلكون أي معرفة حقيقية حول كيفية استثمار أموالهم، لأن المدارس والجامعات لا تعلم الناس كيف يديرون ثرواتهم، بل فقط كيف يكونون موظفين جيدين، وهذا ما يفسر لماذا يظل معظم الناس عالقين في حلقة الدخل المحدود، بينما القلة التي تفهم اللعبة تتحكم في مفاصل الاقتصاد.
الأمر لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يمتد إلى الدول، فالاقتصادات الناجحة ليست تلك التي تمتلك موارد هائلة، بل التي تعرف كيف تديرها، فالنرويج، رغم امتلاكها احتياطات نفطية ضخمة، لم تنفق ثروتها على رفاهية مؤقتة، بل أنشأت صندوقًا سياديًا يحقق لها عائدات مستدامة، على عكس فنزويلا التي تمتلك واحدًا من أكبر احتياطيات النفط في العالم، لكنها غرقت في الأزمات بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، وهنا يظهر الفرق بين من يفهم قواعد اللعبة ومن يستهين بها.
في النهاية، المال ليس مجرد ورقة، بل منظومة فكرية، من يدرسها ويفهمها يستطيع أن يحول القليل إلى الكثير، ومن يتجاهلها يبقى عالقًا في سباق لا ينتهي، فالسؤال الذي يجب أن يطرحه كل شخص على نفسه: هل أنا من يتحكم في أموالي؟ أم أن المال هو من يتحكم في حياتي؟