آراءكُتاب الترند العربي

فيلم “الباطنية” حين تفرض وردة الشخصية رائحتها على أنف السيناريو

رامي عبد الرازق

في عام 1979 صدرت رواية لا يتجاوز عدد صفحاتها 90 صفحة للكاتب المصري صاحب لقب البيست سيللر في السبعينيات والثمانينيات إسماعيل ولي الدين. وفي عام 1980 تحوَّلت الرواية إلى فيلم سينمائي من كتابة مصطفى محرّم وتمثيل نادية الجندي ومحمود ياسين وفريد شوقي وأحمد زكي وإخراج وتصوير حسام الدين مصطفى؛ لينفجر العمل كقنبلة جماهيرية في دور العرض تجعل اسم «ولي الدين» يتفوّق على اسمي بطارقة الرواية المصرية اللذين كانا يتصدران أفيشات الأفلام آنذاك «نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس»، بل يرفع من درجة حرارة الصراع بين اثنتين من وجوه الثمانينيات «نادية الجندي التي لقبت بعد هذا الفيلم بنجمة الجماهير، ونبيلة عبيد التي اتجهت بكثافة لتقديم روايات إحسان عبد القدوس، وأطلقت على نفسها نجمة مصر الأولى».

لماذا الباطنية؟

في عام 1973 قدم المخرج صلاح أبو سيف فيلم حمام الملاطيلي عن سيناريو محسن زايد الذي كتبه مع أبوسيف مقتبسًا من رواية الضابط المتقاعد والمهندس المعماري المعتزل إسماعيل ولي الدين، الذي قرر في نهاية الستينيات أن يتفرغ للأدب «مواليد 1935»، وبدأت رواياته القصيرة التي تحتوي على تركيبة تعجن الأماكن بالبشر، تنتشر في السوق المصري، وتحمل أسماء الأحياء التي تدور فيها، وذلك على غرار تجربة أستاذ هذا الجيل نجيب محفوظ.

اتُّهم ولي الدين بكونه يحاول أن يحاكي محفوظ ليس فقط في أسماء رواياته التي يلعب فيها المكان العنصر الأساسي «حمام الملاطيلي- حارة برجوان- بيت القاضي- اسوار المدابغ»، ولكن في كون قصصه تدور في القاهرة المملوكية القديمة، التي كانت في مخيلة الكثيرين حكرًا على محفوظ فقط، رغم أنه لم يدَّعِ هذا، ورغم أن عديدًا من أبناء جيل ولي الدين -تأثُّرًا بمحفوظ- أنتج عددًا لا بأس به من الروايات التي تحمل أسماء أحياء قاهرية قديمة، مثل عطفة خوخة، وأيام المنيرة، وشارع المواردي للكاتب محمد جلال، وهو من مجايلي ولي الدين.

تعتمد سردية رواية الباطنية على صوت راوٍ عليم يعرف كل شيء ويحكي عن الجميع، تبدأ الرواية برسم صورة للمكان بشكل أقرب للمسح الطبوغرافي الذي يُعَد أسلوبًا أساسيًّا من أساليب ولي الدين، وهو ما نتصور أن مرجعه كونه مهندسًا معماريًّا بالأساس، وليس مجرد ناسخ للمكان المحفوظي.

ثم ينطلق الصراع في الرواية على أساس خطي ما بين شخصية العقاد، كبير تجار المخدرات وبين صبيِّه المنشق عنه، الملقَّب بالكِشر، وكيف أنَّ كلًّا منهما يحاول أن يكيد للآخر بصورة تُفسد عليه احتكاره لسوق توزيع المخدرات في الحي القديم الذي سُمِّي بـ«الباطنية» لأنه يقع في باطن -أي داخل- القاهرة العتيقة، ما يجعل من السهل أن يُسيطر عليه ويقطنه تُجّارُ المخدِّرات لأنَّه من الصعب أن تصل إليهم الشرطة دون أن ينتبهوا أو يأخذوا حذرهم.

يقول السيناريست مصطفى محرم في واحدة من محاضراته عن فن الاقتباس في جمعية كتاب ونقاد السينما إنه حين شرع في اقتباس الرواية كان العنصر النسائي فيها يدور بين شخصية صفية بنت العقاد وأخت فتحي العقاد الذي يرث تجارة أبيه، وبين سماح ابنة الكِشر التي تُحب أدهم الابن الأصغر للعقاد، الذي يبدو نتوءًا أخلاقيًّا في جسد العائلة المدمغ بالانحراف والتجارة المحرمة والقتل، ولكنه –والكلام لمحرم- وجد أن ثمة شخصية تأتي من داخل الراوية وتحتل مكانة رئيسة بالتدريج في المعالجة، وهي شخصية وردة بنت كسرى، وهي مدّاحة نصف غجرية تتكسب عيشها من الغناء في قهاوي وموالد الحي الزاخر بالمقامات الصغيرة، التي وقع فتحي العقاد في حبها وأنجب منها في السر ابنهم –الأهبل- محمود. ولكن نتيجة رفض العقاد الكبير هذه الزيجة يقطع فتحي صلته بها، وتُربي هي محمود بمفردها وتلقبه باسم رجل آخر، فيصبح اسمه محمود أبو دومة، ويكبر كنقطة بيضاء في ثوب المنطقة الأسود، بجسد رجل وعقل يحمل كميات من البراءة، إلى أن يُقتل في النهاية على يد التجار الذين يشكون في تواطُئه مع الشرطة ضدهم.

رائحة الوردة

قد يبدو فيلم الباطنية عملًا تِجاريًّا لاقى كثيرًا من انتقادات المثقفين في ذلك الوقت خاصة مع تقديم الشخصية النسائية الرئيسة التي قدمتها الجندي بإفّيه شعبي يغازل ألسنة الجمهور وهو «سلِّم لي على البتنجان» وهي الإضافات الحوارية المبتذلة التي كانت الممثلة تستقدم كاتب الحوار شريف المنباوي كي يُطعم بها المَشاهِد.

لكن على الجانب الآخر، فإن المعالجة السينمائية للنص الروائي احتوت على كثيرٍ من التفاصيل الشائقة التي يمكن بحق أن تصلح نموذجًا لدراسة عملية فرْضِ شخصية روائية نفسها على السيناريو، لتزاحم الصدارة وسط الشخصيات التي كان لها النصيب الأكبر من الصراع في النص الأصلي.

ما حدث أن شخصية وردة -بحكم كونها مصب الصراع على أكثر من جبهة، سواء العقاد الكبير أو فتحي أو من ناحية محمود ابنها الذي يعاني تراجعًا ذهنيًّا واضحًا وعلاقته بضابط الشرطة المتخفّي الذي يحاول أن يُوقع بشبكة التجار- أصبَحت هي الأقدر في السيناريو على أن تفتح أكثر من جبهة صراع في أكثر من اتجاه، خاصة عندما قام السيناريست عملًا بمبدأ الدمج بلعبة غاية في الإبداع.

في الفيلم قام بانتزاع محمود ابن وردة منها بأمر من جدِّه العقاد الكبير، ودمج شخصية محمود بشخصية أدهم ابن العقاد الأصغر، فصار محمود/أدهم هو حفيد العقاد وليس ابنه كما في الرواية، بينما لا تعلم وردة ذلك، لأنهم أبلغوها أن ابنها قُتِل على يد العقاد انتقامَا من زواجها غير المرغوب فيه من ابنه، ومن ثم أصبح لديها ثأر عنيف تجاه العقاد وهو الثأر الذي سوف تحاول أن تروي عطشه بقتل الحفيد الطاهر أدهم وهي لا تدري أنه هو نفسه ابنها محمود!

ولم يكتفِ السيناريست بذلك، بل أقدم على اقتطاع جزء من شخصية محمود في الرواية وهو الجانب المتخلف ذهنيًّا في شخصيته وألحقه بشخصية الضابط المتخفي –قدم الدور أحمد زكي بإجادة واضحة- ليصبح الجانب المتخلف عقليًّا هو الساتر الذي يراقب من خلفه الضابط أحمد مسعود مجتمع الباطنية في محاولة للإيقاع بكبار التجار بها.

وبما أن شخصية وردة تصدَّرَت الصراع على أكثر من مستوى فلم يكن هناك بُدٌّ من أجل تكثيف الإيقاع من أن تكون هي الأخرى الزوجةَ أو العشيقة التي تغوي الكِشر – محمود ياسين- الذراع اليُمنى للعقاد الكبير، وتدفعه إلى أن يتخلص من ظل زعيمه ويفرد هو ظلَّه الخاص على الحي والتجارة المحرّمة، وبذلك تكون شخصية وردة في إطارها السينمائي أصبحت ملتقى الصراع في ثلاثة خيوط مختلفة ومتشابكة: أولها هو ثأرها لدى العقاد الكبير لأنه أخذ منها ابنها، ومن ثم تترصد لحفيده، والثاني هو حب فتحي العقاد لها الذي لم يخفت وغيرته الذكورية من كونها تتقرب من الكشر، وثالثها هو تقربها من الكشر لكي تقبله على العقادين وتضرب الظالمين بالظالمين انطلاقًا من كونها جميلة، مغوية، ناعمة كحية بهية، وهي مشارط الأنثى الأخطر والأكثر حدة من الأسلحة الحديدية.

ولا يفوت السيناريو ضمن عملية رفع نسبة تستوستيرون الصراع أن يجعل الضابط أحمد مسعود يكشف نفسه لوردة في محاولة لحمايتها من عملية اغتيال مدبَّرة من فتحي العقاد، ما يضطرها وفاءً للجميل أن تتعاون معه ضد العقاد والكشر، وتكون سببًا في الإيقاع بالجميع في النهاية. وبعد أن تؤدي الشخصية كل مهماتها في إزكاء الخطوط الدرامية تصل بها الذروة إلى خاتمة تراجيدية تطهيرية بأن تتآمر على قتل حفيد العقاد دون أن تدري أنه نفسه محمود ابنها، ومع صراخاتها التي تختلط بدم الشاب المغدور تتبلور المعالجة السينمائية للرواية لتصبح أقرب لمأساة إغريقية مكتملة العناصر سواء على مستوى الحكي أو التأويل أو الغرض التطهيري من وراء بلوغ قمة الألم والحزن على وفاة أكثر الشخصيات براءةً وطُهرًا كضحية لمجتمع نجس ومتردٍّ.

حوض الزمن

أخيرًا تجدر الإشارة إلى أن الاقتباس يستلزم عادة اشتغالًا دقيقًا على عنصر الزمن، وذلك لدعم السياق السردي والكثافة المطلوبة للإيقاع، بالإضافة إلى تأطير التغييرات التي يجريها السيناريست على النص الأصلي. وفي الباطنية يبدأ الفيلم في مرحلة مبكرة عن زمن الرواية، يبدأ مع شرارات الحب التي انطلقت بين وردة وفتحي قبل أن يتدخل العقاد الكبير، ويبدأ والكشر لا يزال مساعدًا خاضعًا للعقادين وتحت ظل تجارتهم المهيب، بينما تبدأ الرواية من لحظة الصدام بين الكشر والعقاد الكبير، الذي يتسبب في أن يدس كل منهما للآخر، أي في مرحلة متقدمة من الصراع، في حين تحمل الفصول بعض الإشارات المتشظية عن تاريخ علاقتهما.

إن عنصر إسالة الزمن الروائي وإعادة صبه في قالب السيناريو السينمائي هو ما جعل زمن الرواية الأصلي يبدأ في الساعة الثانية من الفيلم، بينما الساعة الأولى عبارة عن أزمنة جاء ذكرها عابرًا كخلفية للصراع بين العقاد والكشر، ثم صارت هي الزمن الرئيسَ الذي يحتوي على زخم الأفعال والتفاصيل الجاذبة المثيرة.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى