الذكاء الكاذب
عمر غازي
يحمل لنا التاريخ الكثير من الحكايا لأشخاص يظنون أنفسهم أذكياء بينما هم في الواقع عكس ذلك، تتميز هذه الفئة بثقة زائدة بالنفس تجعلهم يتخذون قرارات أبعد ما تكون عن معرفتهم، ويتحدثون بثقة عالية في مواضيع لا ناقة لهم فيها ولا جمل وكما يقال “من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب”، هذه الثقة الزائدة غالبًا ما تعميهم عن رؤية الحقيقة أو قبول النصائح من الآخرين، بالإضافة إلى ذلك، يجد هؤلاء صعوبة في التعلم من الأخطاء، بسبب اعتقادهم الراسخ بذكائهم، مما يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة من الأخطاء.
رفض النقد هو سمة بارزة أخرى لهؤلاء، حيث لا يتقبلون النقد بسهولة ويميلون إلى تفسير أي ملاحظات سلبية كإهانة شخصية، بدلاً من اعتبارها فرصة للتحسين، هذه الحساسية تجاه النقد تجعل من الصعب عليهم تطوير مهاراتهم أو تحسين أدائهم، ومن الملاحظ أيضًا ميلهم إلى التفاخر بإنجازاتهم البسيطة وتضخيمها لجعلها تبدو أكثر أهمية مما هي عليه بالفعل، مما يعكس حاجة مستمرة للتمجيد يمكن أن تكون عائقًا أمام التعاون الفعال والعمل الجماعي.
أحد أبرز الأبحاث في هذا المجال هو “تأثير دانينغ-كروجر”، الذي أُجري من قبل العالمان ديفيد دانينغ وجوستين كروجر في عام 1999، حيث أظهرت الدراسة أن الأفراد ذوي القدرات المنخفضة في مجال معين يميلون إلى المبالغة في تقييم مهاراتهم، في حين أن الأفراد ذوي القدرات العالية يميلون إلى التقليل من شأنها، هذا التأثير يوضح كيف أن الإدراك الذاتي يمكن أن يكون مضللًا، وكيف أن الأشخاص الأقل كفاءة غالبًا ما يكونون غير مدركين لمدى قلة كفاءتهم.
التاريخ حافل بمواقف توضح هذا التناقض، من أبرزها حالة إيجينوس، الذي كان يظن نفسه عالماً بارعاً في الرياضيات والفلك، ولكنه في الواقع كان يتبنى نظريات خاطئة ويفشل في إثباتها علمياً، مما جعله محط سخرية زملائه. ثقة إيجينوس الزائدة بذكائه جعلته يعمي عن الأخطاء الأساسية في عمله، مما قاد إلى نتائج كارثية.
وعلى الرغم من ذكاء نابليون بونابرت العسكري، فإن ثقته الزائدة بنفسه قادته إلى حملة روسيا الكارثية، حيث تجاهل نصائح مستشاريه وأصر على المضي قدماً، مما أدى إلى تدمير جيشه، فكانت هذه الحملة واحدة من أكبر الأخطاء في حياته العسكرية وأظهرت كيف يمكن للغرور أن يقود إلى الفشل.
جون سميث، أحد الرؤساء السابقين لشركة تكنولوجية كبرى، كان يعتقد أن فهمه البسيط للتكنولوجيا كافٍ لاتخاذ قرارات استراتيجية كبرى، مما أدى في النهاية إلى فشل الشركة. سميث كان مثالًا على كيف أن الجهل المقترن بالثقة يمكن أن يؤدي إلى قرارات كارثية تؤثر على العديد من الأشخاص.
هذه الظاهرة تعكس بوضوح تعقيدات الإدراك الذاتي وكيف يمكن للثقة الزائدة أن تؤدي إلى قرارات خاطئة وعواقب غير محمودة، لذا من المهم أن يتعلم الأفراد أهمية النقد الذاتي والتعلم المستمر، وأن يتجنبوا الوقوع في فخ الغرور الزائف الذي قد يقودهم إلى الفشل. إن الاعتراف بحدود المعرفة والسعي لتوسيعها يمكن أن يحمي الأفراد من السقوط في وهم الذكاء الكاذب ويعزز من قدرتهم على اتخاذ قرارات أفضل وأكثر وعيًا، ويبقى الدرس الأهم هو التواضع والاعتراف بحدود قدراتنا، فهذه هي الخطوة الأولى نحو تحسين حقيقي ومستدام.