النقد الفني.. أزمتنا القديمة الجديدة
عبدالرحمن كمال
في مطلع القرن العشرين، وصلت السينما كأحد أنواع الفنون الجديدة إلى عالمنا العربي، وخلال سنوات نجحت في فرض نفسها بوصفها “فن المستقبل”.
ورغم هذا النجاح الكبير للسينما، كان النقد الفني يمشي بوتيرة أبطأ بمراحل من مواكبة ازدهار ذلك الفن. وحتى اليوم، لا يزال النقد الفني يعاني التخبط، ولا يجد من يعينه على مواجهة التطور السريع في صناعة السينما، على الرغم من صعوبة استمرار أية حركة أدبية أو فنية دون مساندة الحركة النقدية التي توجهها وتعد لها وتجنبها الدخول في طرق مسدودة ومتاهات جانبية.
إن مشكلة النقد الفني عمومًا، والسينمائي بشكل خاص، يجب ألا نحصرها في غياب المدارس النقدية فقط، وهو أمر صحيح.
المشكلة مركبة يشترك فيها كل عناصر الفنون، بداية من المحسوبين على النقد الفني أنفسهم الذين لم يتعلموا النقد الفني كممارسة تعتمد على المعرفة والموضوعية، مرورًا بالعاملين في الفنون ومجالاتها المختلفة الذين باتوا أكثر حساسية تجاه أي نقد لدرجة الهجوم والتشهير بالنقاد، وصولًا إلى الجمهور المتلقي الذي ينظر إلى النقد الفني بوصفه نوعًا من «ادعاء الفهم» لا يقدم رؤية تنفرد عن آراء الجمهور.
والواقع أن الحركة النقدية في العالم العربي – هذا إذا اعتبرنا أن هناك حركة نقدية – لا تزال ترتكز على المفهوم الانطباعي للنقد؛ إذ يرى الناقد العمل الفني من وجهة نظر شخصية متأثرة بمويله وآرائه، دون مراعاة القيمة الموضوعية للعمل في حد ذاته.
وبذلك يعبر الناقد عن نفسه من خلال تفسيره للعمل الفني، وبدلاً من أن يكون تحليله مركزًا أساسًا على العمل، يركز كل اهتمامه على ذاته التي تقف في هذه الحالة حاجزًا بين العمل الفني والمتذوق.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا أن اقتصرت الحركة النقدية على المقالات السريعة والدراسات المرتجلة في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. أما الدراسات العلمية والكتب المنهجية، فلم يصل عددها وجودتها إلى الحد الذي يؤسس حركة نقدية مماثلة لنظيراتها في الغرب.
هذا جزء من أزمات “بنيوية” النقد الفني، إن جاز التعبير، وهو لا يعني التغاضي عن مسؤولية الأطراف الأخرى في المشكلة، خاصة تلك التي تعمل في مجالات الفنون المختلفة، من كتابة وتمثيل وإخراج وتصوير. والحقيقة أن دور هؤلاء لا يقل سوءًا عن المحسوبين على الحركة النقدية. فما إن يتعرض أحدهم إلى النقد –مهما كان موضوعيًا – فإنه يسارع إلى الهجوم على الناقد، بل وشخصنة المسألة برمتها.
وفي زمن السوشيال ميديا وجيوش اللجان الإلكترونية المدفوعة والحملات الممولة، بات أهل الفن في مأمن من النقد، ولو تجرأ أحدهم على ذلك، فكل هذه الكتائب مستعدة لشن هجوم كاسح يتسم بكل صفات السوشيال الميديا السيئة، هجوم لا يراعي أخلاقًا ولا يهتم لموضوعية ولا يبالي بدور النقد وأهميته.
ومؤخرًا، تطور الأمر، بل تدهور، ووصلنا إلى درجة أن أهل الفن لا يقبلون مطلقًا أي انتقاد حتى لذويهم الذين التحقوا بركاب الفن على أكتاف أهلهم، وبات “أبناء العاملين” وإخوانهم وأقرباؤهم وأصهارهم ظاهرة منتشرة بشكل مرعب في الفن، والويل والثبور لمن يفكر في التعرض بنقد لورثة الفن الجدد.
لا نغفل كذلك دور الجمهور، الذي فتحت له الثورة التكنولوجية الباب على مصراعيه للاطلاع على الأعمال الفنية العالمية، فوصل إلى مرحلة من تغير المزاج والذوق جعلته يهضم حق النقد الفني، ويظن أن كثرة اطلاعه على الأعمال الفنية العالمية بما فيها من إبداع، يؤهله للحكم على ما يقع تحت أيديه من أعمال فنية.
وبالتالي، بات يرى أن النقد الفني من أعمال الزمن الفائت، لدرجة جعلت البعض يخلط بين مراجعة الأفلام التي تعتمد حصرًا على الآراء والانطباعات الشخصية، وبين النقد الفني الذي من أول سماته التخلي عن الذاتية والالتزام بالموضوعية.