في مدح المُعتاد في فيلم “أيام مثالية”
رشا كمال
“كل يوم هو يوم رائع” جملة خطها الراهب يوانوو كيكين في تعاليمه في كتاب فلسفة الزن “سجل المنحدر الصخري الأزرق”، تعد هذه الجملة خير وصف لأحدث أفلام المخرج الألماني فيم فيندرز “أيام مثالية” Perfect days. ينتقل فيندرز المخرج المتجول بكاميرته المرتحلة لتصوير الأيام المتعاقبة في حياة هيراياما “كوجي ياكوشو” عامل تنظيف المراحيض العامة في مدينة طوكيو باليابان.
يفتح لنا المخرج نافذة على حياة هذا الرجل التي قد لا يرى البعض فيها سوى أنماط متكررة، بينما يتمكن البعض من رؤية السحر الخفي الكامن في لحظاته العادية.
الفيلم كان من بين الأفلام المتنافسة على نيل جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان، وفاز بطله الممثل الياباني “كوجي ياكوشو” بجائزة أفضل ممثل من المهرجان، بينما فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم العالمية “Prize of the Ecumenical Jury”، وتمنح للأفلام التي تُعنى بتكريم الأعمال ذات جودة فنية، وتعد شاهدة على قوة الفيلم في إماطة اللثام عن خبايا النفس الإنسانية من خلال ما يهم الإنسان وما يؤلمه وآماله وإخفاقاته.
فكيف لسيناريو الفيلم – الذي شارك المخرج في كتابته مع الكاتب الياباني تاكوما تاكاساكي- أن يكشف عن مآل شخصية بطله.
نتعرف على العالم الاعتيادي لهيراياما في نصف الساعة الأولى من الفيلم الذي تبلغ مدته قرابة الساعتين، عندما يفيق من نومه على صوت مكنسة عامل النظافة في الشارع، ثم يشرع في القيام بالروتين اليومي وهو الاعتناء بنظافته الشخصية، يروي حديقته الصغيرة، يرتدي ملابس العمل، يضع متعلقاته الشخصية المرتبة بعناية في جيبه، يخرج من بيته ناظرًا للسماء وهو يأخذ شهيقًا يملأ صدره، ويطلق زفيرًا مع ابتسامة تعلو وجهه. يحصل على قهوته الصباحية من ماكينة بجوار منزله، يقود سيارته وهو يستمع لأحد أشرطة الكاسيت القديمة، ويلقي نظرة على برج سكاي تري الذي يراقب محيط مدينة طوكيو، ثم تأخذه طرقات المدينة متنقلاً بين الحمامات المختلفة، وفي وقت الراحة يذهب إلى إحدى الحدائق، ويلتقط صورًا بكاميرا فوتوغرافية قديمة لظلال الأشجار، ثم يعود إلى بيته بعد الانتهاء من عمله ليقرأ قليلًا حتى تغفل عينه مستسلمًا للنوم.
بانتهاء سرد وتصوير العالم الاعتيادي للبطل ينتظر المتلقي الحدث الذي قد يخل بنظام هذا العالم ويلقي ببطله في خضم صراع داخلي أو أزمة خارجية تواجهه، ويا حبذا لو الاثنين معًا.
لكن ماذا لو تأخر هذا الحدث مثلما حدث في فيلم المخرجة شانتال أكرمان «جين ديلمان» Jeanne Dielman, 23 quai du Commerce, 1080 Bruxelles، أو لو لم يقع مثلما هو الحال في فيلم فيندرز هذا!
سيجد المتلقي نفسه أمام فيلم تغيب عنه الحبكة ويغيب بغيابها السبب والنتيجة، فقد ينفر من المشاهدة، أو قد يحاول التفاعل مع الفيلم بشكل إيجابي لمعرفة الغاية من وراء النمط التكراري.
ووظيفة الأنماط المتكررة في بنية الفيلم هي منحه الوحدة والمعنى ليصير كُلًا متكاملًا. وهي تعكس عالم البطل في الفيلم بمعناه الأشمل، وتعزز من المعنى الذي يجده في روتينه اليومي.
تتسرب في هذا التكرار معلومات على لسان الشخصيات المحيطة بالبطل لتخبرنا عنه وتقربنا إليه، مثلما يصفه زميله في العمل “تاكيشي” لصديقته “آيا” بأنه دؤوب في عمله، ولا يتحدث، ولم يسمع صوته كثيرًا، وتصفه صاحبة الحانة التي يرتادها في أيام عطلته الأسبوعية بأنه مثقف وقارئ، ونحن ندرك ذلك بالفعل من استماعه للأغاني الأجنبية، وقراءته لكُتّاب أمثال: ويليام فوكنر، وباتريشيا هايسميث.
كما تتسلل في روتينه اليومي لحظات تجد طريقها إلى أحلامه اليومية، مثل مسكة يد طفل صغير، وعيون الشابة آيا، أو الورقة التي يجدها في أحد الحمامات وعليها لعبة «أكس – أو» ويتواصل من خلالها مع آخر غريب عنه، أو وجه مالكة الحانة وهي تغني.
احتواء الفيلم على تلك اللحظات يعزز من اللحظات الآنية التي يعيشها البطل في يومه، وتنفي عنه انشغاله بالمستقبل أو تعلقه بالماضي. ويصبح الحلم هو أيضًا نمطًا متكررًا للحظة آنية قد عايشها وأصبحت ذكرى.
مع غياب الحدث المحفز لدفع البطل في الأحداث في بداية الفيلم ينتظر المتلقي نقطة المنتصف التي تغير مجرى بقية أحداثه، وهنا يمنحنا فيندرز واحدة من أكثر تفاصيل فيلمه شاعرية، لتكشف عن معنى أيام مثالية، في المشهد الذي تطبع فيه الفتاة آيا قبلة على خد البطل، لنرى بعدها ابتسامة عيونه وهو يأخذ حمامه اليومي، ثم يستلقي على أرضية غرفته مستمعًا إلى أغنية «اليوم المثالي» للمغني لو ريد، وشمس المغيب تمنح ملامحه المبتسمة سكينة تبوح للمشاهد أن مثل هذه اللحظات هي التي تمنح السعادة للبطل. لحظات لا يستطيع الزمن أن يسرقها منه، في موقف أشبه بقصيدة «جيني قبلتني» للشاعر الإنجليزي «جيمس هانت» التي توجه فيه بالحديث مخاطبًا الزمن في قصيدته وهو يقول:
أيا زمن، أيها السارق، يا من تحب اقتناص الأشياء السعيدة
أضف هذا إلى قائمتك
فلتقل إني مرهق من الإعياء، قل إني حزين
قل إن العافية والثراء قد فارقوني
قل إني أشيخ، ولكن أضف إليهم أن:
جيني قبلتني.
بداية من هذه النقطة يبدأ الفيلم في وضع تشققات في الجدار الذي يحيط به البطل نفسه لنقترب منه أكثر، مثل لمحة الحزن التي تعتلي وجهه وهو يستمع لغناء صاحبة الحانة، في أغنية عن شخص ترك دياره ورحل، أو عندما يرى ابنة أخته نيكو بعد فترة طويلة ونعرف من خلالها طبيعة علاقته بها وشقيقته، أو عندما ينهمر في البكاء عند احتضانه شقيقته لتوديعها، وعند إنصاته للزوج السابق لمالكة الحانة وهو يشتكي من مرضه العضال ومن مرور الأيام، ويكلل المخرج هذه اللحظات في المشهد الأخير باقتراب الكاميرا شيئًا فشيئًا من الممثل في لقطة أمامية وهو يستمع لصوت المطربة نينا سيمون وأغنيتها «أشعر أنني بخير»، وملامحه تتفاوت بين السعادة والحزن.
ومن هنا يأتي دور الممثل الذي برع في تجسيد هذه الشخصية الأبيقورية التي تجد لذة العيش في التفاصيل العادية في يومها، فسمح لنا بالاقتراب منه، فلم يكن أداؤه مقيدًا، بل كانت ابتسامته هي الطعم الذي يقربنا إليه إذا ما بعدنا عنه. ونحترم صمته الذي ينقل من خلاله قناعة الشخصية بالحياة التي يعيشها واختارها قبل أن نقابله، شخصيته تشبه ترافيس هندرسون بطل فيلم «باريس، تكساس» Paris, Texas لفيندرز، الذي حاز عنه نفس الجائزة التي نالها لفيلم «أيام مثالية»، لكن هيراياما لم ينجذب للماضي كما فعل ترافيس، ولم يكن يتطلع إلى المستقبل، بل قابلناه بعد أن اختار هذه الحياة. لكن نستطيع أن ندرك مخاوفه وقلقه ربما من مصائر محتملة عندما يركز فيندرز كاميرته على ردود أفعال الممثل أثناء حديثه مع زوج مالكة الحانة، أو عندما يتابع بقلق الرجل المتشرد الذي اعتاد رؤيته أثناء تأدية عمله.
تطغى فلسفة الزن التأملية على الفيلم وعلى شخصية هيراياما، الذي يعني اسمه باليابانية الجبل الساكن، وهو يشبه صخور حدائق الزن التأملية التي تخلق الإحساس بالتوازن، والتناغم، والطمأنينة، وتتجلى في المشهد الذي يجمع بينه وبين ابنة أخته نيكو عندما تسأله:
متى سنذهب إلى المحيط؟
يجيبها قائلًا: في المرة القادمة.
فتسأله: متى تكون المرة القادمة؟
يرد عليها: المرة القادمة هي المرة القادمة، والآن هو الآن.
وإذا تأملنا هذا الحوار، فسنفهم أهمية اللحظة الحاضرة التي ينسجها الفيلم في نمطه المتكرر. فالفيلم هو درس تأملي عن اللحظة الحاضرة كسبب الوجود أو الإيكيجاي باليابانية الذي يشير إلى مصدر القيمة في حياة الإنسان. والفيلم يصور لنا شخصية تستمد قيمتها في الحياة من عمل قد ينفر منه البعض، ومن مطالعة كتاب قبل النوم، ومن حديقة صغيرة يرعاها، ومن تلويحة يد طفل صغير، وقبلة فتاة شابة، ومن صور يلتقطها لظلال الأشجار، ومن لعبة يلعبها مع آخر غريب، أو أغانٍ قديمة يستمع إليها خلال روتينه اليومي.
فيندرز لم ينحُ للأسلوبية، بل سخر الأسلوب لخدمة واقعية الفيلم، واستعاض عن الموسيقى التصويرية بأصوات البيئة المحيطة للتأكيد على حالة استغراق البطل في اللحظة الحاضرة، واستخدم كلمات الأغاني التي يستمع إليها البطل لتصور لنا قناعته بالحياة التي يعيشها. وكانت كاميرته تنقل ذاتية البطل بين حين وآخر لتصوير تأمله لما حوله، ليخرج لنا في النهاية فيلم يتأمل في عادية الأشياء التي تمنح بطله لذة العيش.
المصدر: سوليوود