باربي.. فشل أيديولوجيات القرن العشرين والمنقذ الأجنبي
يوسف أبا
لو استطعت أن تحول ملاكًا إلى بشر هل أنت تقترف ذنبًا عظيمًا، لأنك تجرد ذاك الذي بلا خطيئة من نقائه، أو أنك قمت بعمل نبيل بمنحك إياه حرية الإرادة؟ إلى أي حد يعتبر رأي الملاك مهمًا في الموضوع؟ وهل له اعتبار قبل أن تكون له إرادة؟
هذا السؤال الفلسفي هو في عمق الفيلم. يبدأ الفيلم بحدوث خلل في باربي ليس بسبب داخلي فيها أو التقدم الطبيعي في السن. لكن، وكما يتبين لاحقًا أن الخلل كان قد فرض عليها من قبل امرأة تعيسة في الحياة الحقيقية.
باربي خلال معظم الفيلم هي إما سلبية، أو أن أفعالها مجرد ردود أفعال، بينما الشخصيات الأخرى حولها يلعبون أدوارًا حيوية، خصوصًا كين وجلوريا.
كين قد يكون الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في الفيلم، بعكس باربي التي فرضت عليها معاناتها من قبل قوى فوق طبيعية. كين غير راضٍ في يوتوبيا أرض الباربي، والسبب ببساطة هو الحياة التي أعطيت له ومكانته فيها. يشرح الفيلم القواعد المعمول بها، ويبدو أنها لا تسري على باربي، وذلك جزئيًا بسبب طبيعة الفيلم.
“باربي” فيلم بعد حداثي، يفترض أن الجمهور سبق له مشاهدة الكثير من الأفلام من نفس الصنف بحيث يمكنه أن يملأ الفراغات باستدعاء أحداث مشابهة، ويتفرغ الفيلم لإعطاء التفاصيل لتحريك الحبكة. مع ذلك، فإنه يضطر إلى إعطاء بعض التفاصيل في لحظات معينة، مما يؤدي إلى ظهور التناقض الهائل فيه. يتم إخبارنا أن الاتصال بأرض الباربي لا بد أن يكون من الناحيتين، وأن جزءًا في باربي يشعر بالحنين، وهذا بسبب الرابطة بينها وبين شخص في العالم الحقيقي يلعب بها. على الرغم من ذلك، يبدو جليًا أن باربي لا تريد أيًا مما يحدث لها وأنها ليس لديها ذاك التوق.
بينما لم يذكر أبدًا السبب الذي جعل باربي مختلفة عن الآخرين في أرض الباربي، ولكن يبدو أن السبب أن جلوريا «المرأة التي انعكست تعاستها على باربي»، ليس فقط تعمل في ماتل “الشركة المصنعة لباربي”، ولكنها تعمل في الطابق العلوي، جوار غرفة اجتماعات رئيس الشركة والمديرين التنفيذيين، مما يجعل التواصل معهم أسهل. من المهم التنبه لذلك، لأن بقية الفيلم يتأثر بشدة بإدراك أن التواصل العاطفي بين العالم الحقيقي وأرض الباربي يتم فرضه في اتجاه واحد وليس متبادلاً. تقوم باربي لاحقًا برحلة إلى العالم الحقيقي باحثة عن السبب في أحزانها، في البداية تعتقد مخطئة أن ساشا «ابنة جلوريا» هي الرابط، لكنها تتعرض لسخرية المراهقة التي تتضمن اتهامها بأنها رمز جنسي.
وهي مسألة كوميدية، ليس فقط لأن باربي صنعت كي تباع للبنات الصغار، بل ولأن الشركة المصنعة ماتل، رفعت قضية على فرقة أكوا لأغنيتها الشهيرة عالم باربي تحديدًا، لأنهم قاموا بالحديث عن باربي وكأنها رمز للجنس. تتبنى ساشا فكرة أن مقاييس جسد باربي لا يمكن أن تكون حقيقية، وهي مسألة تدعو للسخرية في فيلم يستخدم ممثلة حقيقية للدور بدلاً من شخصية مصنوعة في الكمبيوتر. وعلى العموم حتى لو كان حديث القياسات على الدمية، فهل هذه القياسات مستحيلة بدون عمليات تجميل؟ هذه المفارقة تبدو أكبر حين نتذكر أن الفيلم أميركي، حيث يعاني المجتمع من السمنة وليس النحافة المرضية «أنوركسيا». هل المعايير المستحيلة هي عدم التعرض لنوبة قلبية في سن الـ41؟ «للمعلومية 5% فقط من مراهقات أميركا يعانون من اضطرابات الأكل، بينما 16% يعانون من السمنة».
ماتل نفسها قالت إن قياسات باربي كانت لجعلها سهلة في تغيير ملابسها وليس لأي سبب آخر؛ مما يجعل المرء يعتقد أن هذا الحوار فقط ليوضح أن ساشا هي شخص مزعج ومعلوماتها خاطئة تستخدم كلمات قاطعة كي تهاجم هدفًا ما. وطبعًا لا يتم تشجيع الجمهور على أخذ اتهاماتها بالفاشية على محمل الجد، بل على التعامل معها على أنها الثرثرات العاطفية المعتادة لمراهقة ضد أحد لا تحبه.
لكن يصبح واضحًا مع مرور وقت الفيلم أنه ينحاز لساشا، ومن العدل أن نقول إن ساشا تستند إلى رؤية جيدة حين تهاجم باربي بخصوص ماديتها ونزعتها الاستهلاكية. البيوت والسيارات في أرض الباربي تظهر بشكل جلي الحياة الباذخة، لكن كل تلك الأمور يتم ابتسارها في السقطة الأخيرة في الفيلم حين يتم استخدام أغنية عالم باربي الجديدة التي تحتوي على جنس واستهلاك أكثر من الأغنية الأصلية. يمكن على الأقل أن نقول إن الأغنية الأصلية كانت انتقادًا للاستهلاك المتفشي في العالم «العالم بلاستيك، شيء مذهل»، بينما النسخة الجديدة تروج لكل شيء انتقدته ساشا بدون أي تلميح إلى أنها سخرية أو استرجاع، بل تذهب الأغنية إلى أبعد من ذلك حين تدعو النساء إلى تدمير بعضهن البعض «كل الباربي المزيفات يردن الادعاء. هي باربي قبيحة مع زمرة الباربي الأخريات. استمر في جرها تصلع قليلاً».
يحملنا ذلك للحديث عن المكان، أرض الباربي يتم وصفها وكأنها في السويد أو شيء شبيه التأثير بما يستحضر السياسات والسمعة النسوية. السويد معروفة بنسويتها إلى درجة أنه قبل عقد من الآن حاولت أن تفرض رؤيتها على دول أخرى من خلال خارجيتها. تبنيها للنسوية وفرضها على مجتمعات محلية أصبحت ثيمة الفيلم في نصفه الثاني.
بينما كانت باربي تحاول الوصول إلى سبب أحزانها، كان كين يستكشف العالم حيث أعجب بمشاهدة رجال لهم مكانتهم في المجتمع، لكنه فزع حين عرف أن نقص التعليم والمهارات عنده يجعله غير قادر على الحصول على وظيفة. يسعى كين حينئذٍ للحصول على ثقافة نظام «السلطة الذكورية» حيث «الرجال والخيول» يحكمون العالم، يعود إلى أرض الباربي وتصبح أفكاره فورًا مصدر تشريع.
في ذات الوقت، تجد شركة ماتل باربي، في البداية يطمئنونها بأنهم سيعيدونها إلى عالمها سالمة وأنهم سيصلحون الخراب الذي حل بها، تقبل في البداية ثم تتردد وبعدها تهرب. من المهم أن ندرك أن السبب في هروبها أنها شعرت بالحاجة إلى العثور على الفتاة التي تظهر في أحلامها ومساعدتها، وليس بسبب أنها باتت تقدر التغيير الذي حدث لها. هروبها يجعلها تعرف أن جلوريا وليس ساشا هي المرتبطة بها، تذهب الثلاثة إلى أرض الباربي فيجدنها قد تغيرت بشكل جذري.
غير كين أرض الباربي إلى مملكة كين، كل الكين هناك استولوا على بيوت الأحلام للباربي، وعاشوا معهن، بينما كانت الباربي تحضر لهم البيرة. حين حاولت باربي أن توقف ذلك رفضت بقية الباربي، اللاتي كن سعيدات بالتغييرات الجديدة. لا بد أن نذكر أنه لا يوجد أي إيحاء من أي نوع بأن كين وصل إلى السلطة عن طريق العنف أو الاحتيال. وفي الحقيقة، فإن هدف الفتيات في هذا الجزء من الفيلم كان أن يوقفن كين من استخدام حقوقه القانونية لتمرير تعديل جديد في القانون عن طريق الاستفتاء الشعبي.
جلوريا وساشا وباربي الأصلية كن فزعات، وطلبن اللجوء من باربي الغريبة، التي كانت منبوذة من المجتمع القديم وبقيت كذلك عند الجديد، هي وبقية الباربي المعيبات لم يكن المجتمع الجديد أفضل أو أسوأ لهن. باربي الأصلية كانت قد فقدت الأمل من الحياة كليًا عند هذه النقطة، وكانت ببساطة مستلقية على الأرض مهزومة، إذ كل محاولاتها لخلق عدم الرضا لدى الباربي الطبيعيات عن طريق الباربي المعيبات باءت بالفشل. ينتهي ذلك بانهيار جلوريا وإلقائها خطبة فيها الكثير من الامتعاض ضد الوجود مما يؤدي في النهاية إلى إعادة برمجة الباربي الطبيعيات.
هي هذه النقطة التي رسخت أن التواصل المتعاطف بين العالم الحقيقي وعالم الباربي المنحاز إلى العالم الحقيقي كان ممكنًا. جلوريا التعيسة المستاءة تنشر تعاستها وغضبها على الآخرين من خلال هذا الاتصال العاطفي، ثم تقنع باربي بأن تستاء من كين؛ لأنه استولى على أرض الباربي، وغسل أدمغة الباربي، وسرق منزلها. دعونا نتذكر أن كين عبارة عن دمية ولا يملك القدرة على تكوين التواصل العاطفي، مما يعني أنه وصل إلى السلطة حين اقترح تلك التغييرات السياسية التي قبلها مجتمع أرض الباربي بطبيعتهم المتسامحة لإسعاده وإحساسهم بالمرح في ظل الطريقة الجديدة للعيش.
اثنتان من الثلاثة التُّهم الموجهة لكين كانتا خطأ، أقبل أن كين اقترف جريمة حين سرق منزل باربي الأصلية، لكن ذلك لا يجعل التهم الأخرى صحيحة ولا ينزع شرعية التغييرات التي قبلها مجتمع الباربي. هذه التهم استخدمت لتبرير الجزء الأكثر فظاعة في الفيلم حيث تكون الباربي الراديكاليات بوليسًا سريًا، يقمن بدوريات في حافلات، يختطفن الباربي من الشوارع كي تقوم جلوريا باستخدام قدرتها كي تحولهن إلى ساخطات. تقوم الباربي بفعل ذلك وهن يرتدين زيًا موحدًا متخليات عن فرادتهن، وأسوأ من ذلك قيامهن بالتآمر والتلاعب بالكين الغافلين للدخول في حرب أهلية عن طريق إقناعهم أنهن يقمن بالخيانة كل واحدة مع كين آخر غير رفيقها. يقود ذلك إلى مشهد الكين يتقاتلون بعضهم مع بعض على الشاطئ، بينما تهرع الساخطات إلى مبنى الإدارة في زيهم الموحد وفي مشهد يعيد للذاكرة الأنظمة الشمولية حين تصل إلى السلطة، يحتفلن بحرمان الكين من حقوقهم السياسية عن طريق خداعهم ودفعهم للصراع على مسائل هامشية في يوم الاستفتاء.
كم هو لافت للنظر كمية التشابه بين جلوريا وبعض الناشطين الغربيين حين يصنعون الثورات الملونة، المشاهد تعطينا فكرة عن كيف يفكر الداعم لهذه الحركات. يتخيلون أنهم إذا تمكنوا من إيصال أفكارهم للجماهير البعيدة المسكينة المقموعة، والتي هي من الغباء بحيث لا تفهم القهر بنفسها، أن هذه الجماهير سوف تنهض وتتخلص من الحكام ويعيدون تشكيل أنفسهم على شكل محرريهم. وكالعادة مع الأفلام الغربية الحديثة يقومون ببساطة بقلب الأعراق المشاركة حتى تبدو نفس الأفكار والطرق القديمة المتعفنة وكأنها جريئة وجديدة، يا سلام إنها جلوريا ذات العرق الأسمر تخلص باربي الاسكندنافية البيضاء. طبعًا أرض الباربي مليئة بمختلف الأعراق، لكن من ينتبه للتفاصيل؟
ينتهي الفيلم بباربي الأصلية التي تخبر كين أنه أكثر من مجرد ممتلكاته، تعود أرض الباربي إلى وضعها الأصلي والكين مشردون، لكن الباربي الغريبات والمنبوذات يمنحن أدوارًا في المجتمع. باربي الأصلية تقرر أن تصبح امرأة حقيقية، وبهذا تصبح فانية. الرسالة المهداة إلى كين غامضة، اذهب وجد نفسك، لكن في الواقع هو ذاهب إلى العوز والفقر؛ لأنه في رحلته إلى أرض الواقع تبين أنه لا يملك أي مهارات مما يجعله غير قادر على القيام بأي دور في المجتمع، ظاهريًا هم يرسلونه في رحلة، لكن في الواقع هم فقط يبعدونه عن أنظارهم. لكن من يهتم، هذا الفيلم موجه للنساء وليس للرجال، كين في النهاية كان شخصية ثانوية، ماذا يقول ذلك للنساء؟ الفيلم لا يقدم شيئًا للنساء، إنه يعطيهن أسبابًا كي يشعرن بعدم الرضا وبالحنق والتعاسة، لكن بالمقابل لا يقدم شيئًا يمكن أن يتطلعن إليه.
فيلم باربي هو فيلم عن المشكلات والتحديات التي تواجهها المرأة يعرضها أشخاص لا يعرفون ما معنى المرأة، والمثل على ذلك هو المشهد القمة، حين تتحدث جلوريا عن التناقضات التي تثقل كاهل المرأة وتبدأ بعبارة «عليك أن تكوني نحيفة لكن ليس بالغة النحافة”، وكأن ذلك خاص بالمرأة فقط، أو حتى نصيحة سيئة، الأنوركسيا مرض سيئ، لكن أيضًا السمنة المشهور بها الأميركيون. وتستمر في القول «لا يجب أن تقولي أريد أن أصبح نحيفة، يجب أن تقولي أريد أن أصبح بصحة جيدة» BMI، هذا كل شيء.
«يجب أن تحصلي على المال، لكن لا يجب أن تطلبي المال، لأن ذلك قلة حياء». هذه العبارة جعلتني أتساءل إذا كانت المخرجة تحمل كراهية شديدة للنساء، لأنني أرفض التصديق أن أي كيان سياسي للنساء يمكن أن يكون تافهًا وأنانيًا وغائبًا تمامًا كي يفكر أن هذه العبارة تنطبق فقط على النساء. جلوريا بالطبع تعاني من نرجسية لم تعالج، وهنا يكمن السبب في تعاستها الشخصية، ويتماشى مع أفعالها كمنقذ خارجي. لا تستطيع جلوريا التعاطف أو تفهم الرجال، لذلك ترى أي مشكلات مجتمعية كخصومة جندرية. مأساة هذا الفيلم هو أنه يخدع الكثيرين للموافقة العمياء وعدم النظر إلى أن شكواها يمكن أن تنطبق على الجنسين، بل وأيضًا الإيمان بصلاحيتها كمعيار مجتمعي.