آراء

الكوميديا بين نقد الانحطاط وترسيخه

تركي صالح

لا أعتقد أننا نحتاج تعريفًا جامعًا مانعًا للكوميديا – كما يقول أهل اللغة – وهو مجال تهتم به العلوم في ساحات الدرس والأكاديميا بعكس ما نحن بصدده من معالجة ثقافية تنفذ إلى أثر هذا الفرع من الفن في واقع الحياة وتشكلات المجتمعات.

إن الكوميديا في بعض الأحايين يمكن اعتبارها من علامات تحضر المجتمعات وتقدمها، فإن المجتمعات التي تنتج فنًا ساخرًا، أو أعمالاً ناقدة لاذعة، أو كوميديا سوداء؛ هي مجتمعات ناضجة بحسب الكثير من النقاد الثقافيين. أضف إلى ذلك أن درجة تقبل النقد اللاذع أو السخرية أو الأعمال الهزلية، تعبِّر بالضرورة عن رقي المجتمعات ومستوى الوعي الثقافي لديها.

إن النظر إلى مستوى المعالجة في الأعمال الكوميدية في أي بلد، يحدد بالضرورة المستوى الثقافي والعلمي والممارسة الاجتماعية من حيث المعايشة والتقبل، وهو أيضًا معيار مهم لقياس مستوى جودة الحياة.

لقد لعبت الكوميديا دورًا رئيسًا في وصول الفنون الأدائية وتسويقها، ولا يخفى على أي من متابعي السينما بشكل خاص شهرة وذيوع صيت الأعمال الكوميدية وتصدُّر أبطالها شباك التذاكر، خاصة في مجتمعاتنا العربية. وتنفرد البلدان الخليجية بين نظيراتها بارتكاز الإنتاج فيها على الأعمال الكوميدية ونجومها، فلا يمكن أن يذكر لك المتابع غير المتخصص من أعمال بلده إلا ما كان كوميديًا. وإن عدَّ لك نجومًا على أصابعه، فلن يكون غير الكوميديين أكثر من ثلاثة، هذا إن كان متابعًا لأغلب الأعمال.

ولكن مربط الفرس هنا هو: هل ما ننتجه في الغالب هو فن كوميدي؟ ولن أكون في طرف الساخطين فأقول: هل فن أم (تهريج)؟

لقد قدَّم الفنانون السعوديون الأوائل أعمالاً كوميدية بمجهودات ذاتية تركزت على نقد الممارسات الاجتماعية السلبية. تطورت هذه التجارب حتى وصلنا لذروتها في التسعينيات الميلادية عند مسلسل (طاش ما طاش)، وهذه التجارب لها ما يسوغها بالنظر للظروف الاجتماعية والمتغيرات الحاصلة في زمنها. لكنها بداية لا يمكن الوقوف عندها، ولا الاستمرار في اجترار الأفكار والتجارب.

المشكلة أن هذه التجارب لم تنضج حتى وقتنا الحاضر، بل ترسخت وتجذرت وأصبحت مكررة وممجوجة. والأدهى أن سطوتها عطلت الكثير من التجارب الجريئة التي حاولت تجاوزها وخلق طريق جديد ومسارات متعددة لكوميديا موقف، أو معالجات كوميدية ناقدة تنطلق من تصورات تنويرية تأخذ بيدها مسؤولية تحريك الكثير من المياه الراكدة.

إن الكوميديا، وإن ظهرت كهزل وضحك وترفيه، فإنها فن (عقل) تعتمد أساسًا على مستوى معرفي وذاكرة جمعية وتكنيك فائق القدرة على صنع المفارقات؛ وهي كأي فن، إن تم الاستسهال به، يمكن أن يكون سلبيًا وضارًا ومعاكسًا للمأمول.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى