“بريكس” و”مستر إكس”
سعد بن طفلة العجمي
في الفيلم الذي أنتج خلال سبعينيات القرن الماضي “مستر إكس” يلعب فؤاد المهندس دور رجل عصابة شرير من شيكاغو ويشبه “مفتاح” الشخصية البسيطة التي يلعب دورها فؤاد المهندس أيضاً.
يحاول “مستر إكس”، وفق ما تسترجعه ذاكرتي، سرقة جوهرة ثمينة لمهراجا هندي يزور القاهرة وينزل في فندق حيث تعمل خطيبة مفتاح، التشابه المتماثل لـ”مستر إكس” ومفتاح تدور حوله حبكة الفيلم الكوميدية المضحكة، و”مستر إكس” هنا يرمز إلى الشخصية المجهولة الغامضة غير المعروفة.
يمثل حرف “X” رمزاً رياضياً للمجهول في العلوم، لذلك سمى الألماني فيلهالم رونتغن مكتشف الأشعة “إكس” هذا الاسم وكان يسمى “أبو الإشعاع”، وحرف “X” عند علماء الصوتيات يعد حرفاً من صوتين ولذلك يكتب “إكس” بالعربية.
لعل أشهر “X” هذه الأيام هي المنصة التي كانت “تويتر”، وقد احتار المغردون منذ أن غير مالكها الجديد إيلون ماسك اسمها وشعارها، فكانت المشاركات والردود تسمى تغريد وتغريدة ويغرد وهكذا، أما اليوم فكيف يمكن وصف الكتابة على منصة “X”؟ بعضهم اقترح “الأكسسة” ويؤكسس وهكذا، لكنها ثقيلة ومصطنعة، كما أن “الأكسسة” لها معنى في بعض اللهجات وتعني الشطب، فيقال حطيت عليه “إكس”، أي إنني قطعت الاتصال والتواصل معه، وهو مفهوم مخالف تماماً لمفهوم التواصل الاجتماعي عبر منصة “X”.
معروف بأن أصل الـ”X” جاء ترجمة “للشيء” من العربية إلى الإسبانية، لكن لأن الإسبانية ليس بها حرف يرمز إلى صوت الشين لعدم وجود صوت الشين في الإسبانية، فاستعاروا “X” من اليونانية التي تلفظه “ش”، بل إن الكلمات التي تبدأ بحرف “إكس” بالإنجليزية هي الأقل بين مفرداتها (نحو 400 كلمة) وكلها تقريباً من أصل يوناني، ولعل هذا ما يفسر استعمال الإنجليزية لبعض الأسماء والكلمات المستعارة التي تبدأ بالشين بحرف الـ “X” مثل لفظهم للاسم الأول للرئيس الصيني شي جينبينغ “Xi” Jinping. كما يستعمل حرف الـ”X” لتصنيف الأفلام التي بها مشاهد جنسية أو لغة نابية، ويقال إن الـ”X” هنا جاءت اختصاراً لكلمة EXPLICITأي فاضح.
عقدت دول “بريكس” اجتماعاً مهماً الأسبوع الماضي في جنوب أفريقيا، واشتقت مجموعة دول “بريكس” اسمها من الأحرف الأولى باللغة الإنجليزية لأسماء الدول المؤسسة لها BRICS-Brazil- Russia- India- China- South Africa، وكانت المجموعة في بداية تشكيلها عام 2008 تتكون من الصين والهند وروسيا والبرازيل وتسمى مجموعة “بريك”، ثم “أكستها” جمهورية جنوب أفريقيا بانضمامها إليها عام 2010 فصار اسمها “بريكس”، وتختصر بالأدبيات اللاتينية BRIX، وهو اختصار يختلف عن BREXIT الذي يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
رحبت المجموعة خلال اجتماعها بانضمام عدد من الأعضاء الجدد إليها، وتتضارب تصريحات دول “بريكس” حول أهداف إنشائها، فبينما تكرر الهند والبرازيل أنها ليست تنظيماً موجهاً ضد الهيمنة الغربية، لا يتوافق ذلك مع التصريحات الروسية والتوجهات الصينية، ولعل قبول عضوية دول مثل إيران وفنزويلا سيعزز توجه المجموعة بمحاولة تشكيل “بلوك” يحاول كبح جماح الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي.
لا يمكن لمن يقرأ الأرقام أن يستهين بقدرات مجموعة “بريكس” الاقتصادية والديموغرافية الهائلة، فهي تشكل حالياً ربع الاقتصاد العالمي تقريباً بناتج قومي جماعي يبلغ نحو 26 تريليون دولار، ويشكل سكان المجموعة نصف سكان الكرة الأرضية تقريباً، بالتالي فهي سوق هائلة لا يمكن الاستهانة بها نظرياً وبالأرقام.
لكن الأرقام شيء والواقع الاقتصادي العالمي شيء آخر، فالهيمنة الغربية الاقتصادية لم تأتِ من القدرات الغربية الاقتصادية الجبارة فحسب، بل إن دول الاقتصاد الغربي بعمومها تجمعها عوامل قيمية مشتركة تفتقد إليها دول “بريكس”، فالعالم الغربي تجمعه قيم الليبرالية الديمقراطية التي يشترك معه فيها حلفاء عمالقة اقتصادياً وعسكرياً كاليابان وكوريا الجنوبية، كما يرفع الغرب شعارات ويبشر برسالات مشتركة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، صحيح أنه لا يقرن القول بالفعل غالباً، لكن هذه الشعارات تشكل جسوراً لا تقل قوة عن جسور الاقتصاد والمصالح المشتركة.
لا يجمع دول “بريكس” في نظر المراقبين سوى محاولة الفكاك من الهيمنة الغربية الاقتصادية وسيطرة الدولار على التعاملات المالية والتجارية العالمية، وهذا العامل بحد ذاته قد لا يكون كافياً لفاعلية المجموعة، فالدول المؤسسة لـ”بريكس” تتراوح أنظمتها بين الشيوعية مثل الصين والأوليغارشية لروسيا والديمقراطية المشوهة بالعنصرية الحالية مثل الهند والديمقراطية المضطربة للبرازيل والفوضوية السياسية كجنوب أفريقيا. فهل يكفي عامل التخلص من الدولار كعملة تجارية عالمية والفكاك من الهيمنة الغربية الاقتصادية لضمان فاعلية المجموعة واستمرارها؟
الواقع يقول إن تجارب مشابهة في الماضي لم يكتب لها الاستمرار لاختلاف الأجندات، وما حلف وارسو عن المراقب ببعيد، كما يقدم واقعنا العربي المرير نماذج لتجارب تجمعات باءت بالفشل الذريع مثل الاتحاد المغاربي الذي ضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب والذي أصبح ذكرى من الماضي، ومجلس التعاون العربي الذي ضم العراق ومصر والأردن واليمن وأصبح أثراً بعد عين، ولم يبق من التجمعات العربية الفاعلة سوى مجلس التعاون الخليجي الذي استمر بفضل عوامل عدة أهمها تشابه الأنظمة الحاكمة في دوله.
الطموحات التي يتحدث عنها أعضاء “بريكس” جميلة وبراقة، لكن هذه الطموحات ستصطدم بواقع التناقضات وتضارب الأجندات واختلاف الأنظمة السياسية لهذه البلدان المؤسسة للمجموعة، وهي مجموعة في حاجة إلى “مفتاح” الذي يشبه “مستر إكس” في فيلم فؤاد المهندس، وهذا المفتاح هو تشابه أو تماثل وليس تطابقاً بين أنظمتها يعزز مصالحها الاقتصادية المشتركة، وإلا فإن مصيرها سيكون التلاشي مثل غيرها.