التاريخ البشري مع السينما بين الصالات والمنصات الرقمية: هل التحديات تماثل الصحافة الورقية؟
عبدالله الذبياني
المهتمون بالسينما أو المؤرخون للفنون بشكل عام، يطيب لهم أن يقسموا التاريخ إلى قسمين (قبل ظهور السينما وبعد ظهورها)، رغم ما قد يواجهه هذا التصنيف من ملاحظات أو انتقادات تتعلق بالتجربة البشرية في الفنون، إلا أنه يعكس قيمة السينما في التاريخ البشري باعتبارها منبعًا أساسًا للثقافة وصناعة الوعي في المجتمعات. ومن المعروف أن هذا الفن، وفق هذا التصنيف، أصبح يطلق عليه (الفن السابع) باعتباره ضمن بقية الفنون البشرية الستة (العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشعر والرقص).
السينما على صعيد المجتمعات، وبعيدًا عن تاريخها وتطورها وتباين حضورها من مجتمع على مجتمع، وفقًا لاعتبارات اقتصادية أو تشريعية، أو مسائل تتعلق بمحاذير ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالعقائد والعادات؛ فإن مفهومها – أي السينما – يقع في خانتين: الأولى (الأفلام) كصناعة ومشاهدة دون النظر إلى الوسيلة أو الطريقة التي تتم المشاهدة بها، والثانية هي (قاعات السينما)، حيث تشارك آخرين لا تعرفهم المشاهدة وتتبادل معهم المشاعر.
في ظل هذا التصنيف، ما الأهم للمجتمعات أو الأفراد الذين يتكون منهم أي مجتمع: بقاء السينما فقط كصناعة أفلام، أم ضرورة استمرار القاعات باعتبارها – أي الصالات أو القاعات – نوعًا من العلاقات المعززة للعلاقات البشرية؟ كما يقول الكاتب خالد السهيل (في السينما تضحك وتبكي مع غرباء)، رغم أن العبارة تبدو عاطفية جدًا، إلا أنها تحمل معاني عميقة، تجاه (الفن السابع) الذي بدأ يواجه تحديات في قاعاته لصالح المنصات (الانعزالية)، أو التي تفضي إلى العزلة.
عودة إلى أيهما أهم لتراكم التجربة البشرية: السينما كصناعة من أي منصة، أم ضرورة بقاء (الشاشات الكبيرة في القاعات)، باعتبارها جزءًا من تاريخ هذا الفن وصناعته واستمراره، فضلاً عن الجانب الاجتماعي في ذلك؟ قبل ذلك من نافلة القول أن السينما ذات أهمية قصوى للبشرية، وهي جزء من تاريخها وتبادل التجارب والمعارف؛ بل إنها تعدُّ جزءًا من تاريخ الدول، أو عنصرًا أساسيًا من التاريخ الاجتماعي. فكثير من الأبحاث والدراسات التي تعدُّ في جوانب علم الاجتماع والمجتمعات، تعود إلى السينما لقراءة السلوكيات وتركيب الشخصيات والجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت؛ الفترة المستهدفة من الدراسة. واستنادًا إلى ذلك، فاستمرارها اتفاق جمعي لا خلاف عليه.. لكن كيف تستمر؟
لا شك، وليس أدنى تشكيك في ذلك، أن تحدي السينما الآن في عصر (الثورة الرقمية) يكمن في القاعات وليس في الصناعة، التي ربَّما هي تعيش أزهى عصورها. فالمنصات أصبحت أكثر، تلفزيونيًا أو عبر الأجهزة الذكية التي تصل للمتلقي بأيسر الطرق وأقلها تكلفة؛ وهذا دفع إلى غزارة في الإنتاج بعيدًا عن القاعات. ولعل واحدة من الثورات التي تذكر هنا منصة (نتفليكس NETFLIX)، وغيرها مئات بالطبع، فضلاً عن تحديات تتعلق بـ(التهكير) واختراق مواقع المنتجين أو المشغلين لمشاهدة الأفلام مجانًا في بيوتهم ومقاهيهم، بدون قاعات وبدون تكلفة للمواقع.
هذا التحدي ليس من صناعة الخيال. فلنأخذ حالات في هذا الصدد تعكس المخاوف من المنصات على حساب القاعات، مثلاً شركة باراماونت سرَّحت رئيس إنتاجاتها جيم جيانولوليس، ذلك لأنه كان مصرًا على استمرار عرض الأفلام في صالات السينما، ومنح الأفلام حقها الكامل في صالات السينما، بينما أرادت الإدارة العليا للشركة المنتجة الإسراع في عملية تحويل أفلامها إلى العروض المنزلية.
شركة وورنر مطلع 2022 قامت ببث أفلامها في صالات السينما وعلى منصتها الخاصة معًا، أو بعد 45 يومًا من عروضها السينمائية في الولايات المتحدة كحد أقصى، و31 يومًا كحد أقصى في عروضها العالمية. وصوني (مالكة كولمبيا التي هي من بين استوديوهات هوليوود العتيدة)، باتت الملاذ الأخير؛ إذ اختارت تخصيص صالات السينما بإنتاجاتها، لكن حتى تصمد حيال منافسيها، أكثر من أي وقت مضى، عليها اللجوء إلى أفلام تضمن نجاحاتها كما حدث هذا العام عندما عرضت Spider – Man: No Way Home، حسب ما نقلت صحيفة الشرق الأوسط في حينه.
هاتان الحالتان السابقتان والمؤكد غيرهما عشرات، بل مئات الحالات في حرب (الصالات وسينما المنصات)، وإن كانت القاعات ما زالت مؤشرًا أساسًا في نجاح الفيلم أو عدمه. غير أن مثل هذه الحالات تشي بحرب قادمة ربَّما تطيح بالصالات في نهاية المطاف؛ استنادًا إلى تغير سلوكيات الأجيال الجديدة، وآلية تعاملهم مع المعرفة والمعلومات، وحتى الفن.
ورغم أن الإحصاءات تشير حتى الآن إلى عوائد بالمليارات من خلال صالات السينما، فإنه من المؤكد ودون شك أن هذه المليارات من الدولارات ربَّما كانت أعلى بكثير لولا ظهور المنصات المنزلية بدرجة أولى، وفرق الاختراقات غير الشرعية بدرجة أقل، لكنها تنمو بدرجات ملحوظة للعامة وصنَّاع السينما.
السؤال المشروع الآن: هل صالات أو قاعات السينما تواجه تحديًا يتسق طبيعيًا مع التطورات في عصر (الحضارة الرقمية) – كما يطيب للدكتور المختص سعيد الدحية الزهراني أن يصف المرحلة بهذا الاسم – أم أن القاعات والصالات جزء مؤسسي من السينما سيبقى يؤدي مهمته طالما بقيت صناعة السينما؟ لا يمكن القطع بإجابة فيصلية الآن، لكن علينا استحضار صناعات عدة، اندثرت أو في طريقها للاندثار بعوامل تسارع تطورات التقنية؛ حتى أكثر المتشائمين – مثلاً – لم يكن يضع تصورات – على سبيل المثال – لمستقبل الصحافة الورقية في بداية الألفية وبدء انتشار شبكة الإنترنت. وغير ذلك من الصناعات يمكن القياس عليها. الكتابة عن هذه التحديات ليست من باب الرفاهية أو التسلية، فالسينما (الفن السابع) كما سبق قوله، صاحبت سطوة في الثقافة والعقل الجمعي البشري، لكن هذه السطوة تكون أكثر فعالية في الصالات، وليس في المنصات الرقمية التي تزيد المتلقي عزلة، وتحد من فرصة التجربة الجماعية.
يمكن القول إن الخوف ليس على الصناعة نفسها، صناعة السينما بكل أدواتها؛ بل الخوف على الاستثمار في قاعات السينما، وقبلها الخوف على ثقافة المشاهدة الجمعية، التي تتيح للمتلقي التشاركية في التجربة. يقول نوح هراري في كتابه (تاريخ مختصر للمستقبل)، إن ذكاء الإنسان الحالي ليس في اختلاف عقله عن أسلافه، بل لأن تجاربه أصبحت تشاركية مع الآخرين، مما يعطي فرصة لنضوج التجربة وتطويرها وجعلها أكثر فاعلية في وعيه وتراكمية تجاربه الأخرى، أو كما قال في هذا النحو.
المصدر: سوليوود