تقنية

جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية

الترند العربي – متابعات

في خطوة علمية وُصفت بأنها واحدة من أكثر القفزات التكنولوجية إثارة في العقد الأخير، أعلن فريق بحثي دولي عن تطوير جهاز متناهي الصغر، لا يتجاوز سمكه واحدًا من مئة من شعرة الإنسان، لكنه يمتلك قدرة غير مسبوقة على التحكم في ترددات الليزر، ما يضعه في قلب الثورة القادمة للحوسبة الكمومية. هذا الابتكار لا يمثل مجرد إنجاز هندسي دقيق، بل يشير إلى تحول جذري في الطريقة التي يمكن بها بناء الحواسيب الكمومية واسعة النطاق، ويفتح الباب أمام تطبيقات لم تكن ممكنة عمليًا حتى وقت قريب.

الجهاز الجديد، الذي جرى تصنيعه بالكامل داخل منشآت صناعية متخصصة شبيهة بتلك المستخدمة في صناعة المعالجات الإلكترونية التقليدية، ينجح في الجمع بين ثلاثة عناصر نادرًا ما تجتمع في التقنيات المتقدمة: الصغر الشديد، الأداء العالي، وقابلية الإنتاج واسع النطاق بتكلفة معقولة. وهي معادلة طالما شكّلت التحدي الأكبر أمام تطور الحوسبة الكمومية من مختبرات البحث إلى الاستخدام الفعلي في العالم الحقيقي.

جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية
جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية

ما الذي يجعل هذا الجهاز مختلفًا عن كل ما سبقه؟

التميّز الأساسي للجهاز الجديد لا يكمن فقط في حجمه المجهري، بل في وظيفته الحيوية داخل منظومة الحوسبة الكمومية. فالحواسيب الكمومية، بخلاف الحواسيب التقليدية، تعتمد على الكيوبتات بدل البِتّات، وهي وحدات معلومات شديدة الحساسية تتأثر بأدق التغيرات الفيزيائية. التحكم في هذه الكيوبتات يتطلب دقة بالغة في توليد وتعديل أشعة الليزر، سواء من حيث التردد أو الطور أو الاستقرار الزمني.

الجهاز المطوّر يعمل كمُعدِّل طور بصري فائق الكفاءة، قادر على توليد اهتزازات ميكروويف بترددات عالية جدًا، تتذبذب مليارات المرات في الثانية الواحدة. هذه الاهتزازات تُستخدم للتحكم في ضوء الليزر بدقة استثنائية، ما يسمح بتوليد ترددات جديدة ومتعددة من مصدر ليزر واحد، وبفروقات دقيقة جدًا لا يمكن تحقيقها بالوسائل التقليدية إلا عبر أنظمة ضخمة ومعقدة.

هذه القدرة تعني عمليًا أن الحواسيب الكمومية المستقبلية لن تكون بحاجة إلى عدد هائل من مصادر الليزر المنفصلة، بل يمكن إدارة آلاف القنوات الضوئية من خلال شريحة واحدة متناهية الصغر.

الحوسبة الكمومية… لماذا هي معقدة إلى هذا الحد؟

لفهم أهمية هذا التطور، لا بد من التوقف قليلًا عند طبيعة الحوسبة الكمومية نفسها. فبينما تعتمد الحواسيب التقليدية على الصفر والواحد، تعمل الحواسيب الكمومية وفق مبادئ ميكانيكا الكم، حيث يمكن للكيوبت أن يكون في حالة تراكب، أي صفر وواحد في الوقت نفسه، إضافة إلى ظاهرة التشابك الكمومي التي تربط بين الكيوبتات مهما تباعدت مكانيًا.

هذه الخصائص تمنح الحوسبة الكمومية قدرة هائلة على معالجة مسائل بالغة التعقيد في مجالات مثل التشفير، ومحاكاة الجزيئات الكيميائية، والذكاء الاصطناعي، وتطوير الأدوية، والتنبؤ بالمناخ. غير أن هذه القوة تأتي بثمن تقني باهظ، إذ إن أي اضطراب بسيط في البيئة المحيطة قد يؤدي إلى فقدان التماسك الكمومي، وبالتالي انهيار الحسابات.

من هنا، يصبح التحكم في الضوء والليزر عنصرًا محوريًا، وهو ما يجعل الجهاز الجديد أحد أهم اللبنات الأساسية في بناء حواسيب كمومية مستقرة وقابلة للتوسع.

جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية
جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية

قفزة في كفاءة الطاقة وتقليل الحرارة

واحدة من أبرز نقاط القوة في هذا الابتكار هي كفاءته العالية في استهلاك الطاقة. فبحسب الفريق البحثي، يستهلك الجهاز طاقة ميكروويف أقل بنحو 80 مرة مقارنة بالعديد من المُعدِّلات التجارية المستخدمة حاليًا في المختبرات. هذا الانخفاض الكبير في استهلاك الطاقة لا ينعكس فقط على تقليل التكلفة التشغيلية، بل يقلل أيضًا من توليد الحرارة، وهي عدو مباشر لاستقرار الأنظمة الكمومية.

تقليل الحرارة يسمح بوضع عدد أكبر من القنوات الضوئية بالقرب من بعضها البعض، بل ودمجها على رقاقة واحدة، وهو ما كان يُعد حتى وقت قريب أمرًا شبه مستحيل بسبب التداخل الحراري والكهرومغناطيسي.

من المختبر إلى المصنع… نقطة التحول الحقيقية

ما يجعل هذا الإنجاز مختلفًا عن كثير من الابتكارات الأكاديمية السابقة هو أنه لم يُنتَج كقطعة تجريبية فريدة داخل مختبر، بل جرى تصنيعه باستخدام تقنيات تصنيع قابلة للتوسّع، مشابهة لتلك المستخدمة في صناعة المعالجات الدقيقة الموجودة في الحواسيب والهواتف الذكية والسيارات والأجهزة المنزلية.

هذا يعني أن الجهاز ليس مجرد نموذج بحثي، بل نواة لتقنية يمكن إنتاجها بكميات كبيرة، ودمجها ضمن أنظمة تجارية مستقبلية، وهو ما يمثل خطوة حاسمة في نقل الحوسبة الكمومية من مرحلة “التجربة العلمية” إلى مرحلة “البنية التحتية التقنية”.

جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية
جهاز أصغر من شعرة الإنسان يفتح عصرًا جديدًا للحوسبة الكمومية

تأثيرات محتملة على مستقبل التكنولوجيا

انعكاسات هذا الابتكار لا تقتصر على الحوسبة الكمومية وحدها. فالقدرة على التحكم الدقيق في ترددات الليزر وطورها تفتح آفاقًا واسعة في مجالات أخرى، مثل الاستشعار الكمومي عالي الدقة، والشبكات الكمومية الآمنة، وأنظمة الاتصالات المتقدمة، وحتى في تقنيات القياس فائقة الحساسية المستخدمة في الفيزياء والطب.

كما أن اعتماد تقنيات تصنيع قياسية يسهّل دمج هذه الشرائح مع مكونات إلكترونية أخرى، ما يمهّد الطريق لتطوير أنظمة هجينة تجمع بين الإلكترونيات التقليدية والبصريات الكمومية على نفس الرقاقة.

هل نحن أمام بداية عصر جديد للحواسيب؟

يرى كثير من الخبراء أن هذا النوع من التطورات يمثل ما يشبه “الترانزستور” في بدايات الحوسبة التقليدية. فكما كان الترانزستور صغيرًا وبسيطًا في ظاهره، لكنه غيّر العالم لاحقًا، فإن هذه الشريحة المتناهية الصغر قد تكون أحد المفاتيح التي تسرّع وصول الحوسبة الكمومية إلى مرحلة النضج التجاري.

ويؤكد أحد أعضاء الفريق العلمي أن القدرة على توليد ترددات ليزر جديدة بفروقات دقيقة للغاية هي شرط أساسي للتعامل مع الحواسيب الكمومية القائمة على الذرات والأيونات، وأن تحقيق ذلك بكفاءة وعلى نطاق واسع لم يكن ممكنًا قبل هذا التطور.

التحديات التي لا تزال قائمة

رغم التفاؤل الكبير، لا يخفي الباحثون أن الطريق نحو حواسيب كمومية عملية ما زال طويلًا. فإلى جانب التحكم في الليزر، هناك تحديات أخرى تتعلق بتصميم الكيوبتات نفسها، وتصحيح الأخطاء الكمومية، وبناء أنظمة تبريد متقدمة، وتطوير برمجيات قادرة على استغلال القدرات الكمومية بكفاءة.

غير أن الجهاز الجديد يزيل واحدة من أكبر العقبات الهندسية، ويفتح المجال للتركيز على التحديات الأخرى بثقة أكبر.

الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية… تلاقٍ منتظر

من اللافت أن هذا التطور يأتي في وقت يشهد فيه الذكاء الاصطناعي طفرة غير مسبوقة. ويرى مراقبون أن الجمع بين الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية قد يقود إلى ثورة معرفية حقيقية، حيث يمكن للأنظمة الكمومية معالجة مشكلات تعلم آلي معقدة بسرعات تفوق قدرات الحواسيب الحالية بمراحل.

وفي هذا السياق، تصبح الشرائح المتقدمة للتحكم في الليزر عنصرًا أساسيًا لتمكين هذا التلاقي التقني.

ما هو الجهاز الجديد الذي جرى تطويره؟
هو شريحة متناهية الصغر، أصغر 100 مرة من شعرة الإنسان، تُستخدم للتحكم الدقيق في ترددات وطور أشعة الليزر اللازمة لتشغيل الحواسيب الكمومية.

لماذا يُعد هذا الجهاز مهمًا للحوسبة الكمومية؟
لأنه يوفّر تحكمًا عالي الدقة في الليزر مع استهلاك طاقة منخفض جدًا، ما يسمح بتوسيع عدد الكيوبتات والقنوات الضوئية دون تعقيدات حرارية أو هندسية كبيرة.

هل الجهاز جاهز للاستخدام التجاري؟
الجهاز ليس منتجًا تجاريًا نهائيًا بعد، لكنه صُمم باستخدام تقنيات تصنيع صناعية قابلة للتوسع، ما يجعله أقرب للتطبيق العملي من كثير من النماذج البحثية السابقة.

هل يمكن أن يؤثر هذا الابتكار على حياتنا اليومية؟
بشكل غير مباشر نعم، إذ يسرّع تطوير الحوسبة الكمومية التي ستؤثر مستقبلًا في مجالات مثل الأدوية، والطاقة، والأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي.

هل سيحل هذا الجهاز محل التقنيات الحالية؟
ليس فورًا، لكنه يمثل خطوة أساسية نحو بناء أنظمة أكثر كفاءة واستقرارًا، وقد يصبح جزءًا من البنية القياسية للحواسيب الكمومية المستقبلية.

إلى أين يتجه البحث العلمي بعد هذا الإنجاز؟
من المتوقع أن يركّز الباحثون على دمج هذه الشرائح مع أنظمة كيوبت متقدمة، وتحسين الاعتمادية، وتسريع الانتقال من النماذج التجريبية إلى الأنظمة التشغيلية الكاملة.

خاتمة تحليلية

في عالم يتسارع فيه الابتكار بوتيرة غير مسبوقة، تبدو هذه الشريحة المتناهية الصغر مثالًا حيًا على أن التحولات الكبرى قد تبدأ أحيانًا من تفاصيل مجهرية لا تُرى بالعين المجردة. وإذا كان القرن العشرون هو قرن الإلكترونيات، فإن القرن الحادي والعشرين قد يكون بالفعل قرن الحوسبة الكمومية، وهذه الشريحة قد تكون إحدى شراراته الأولى.

اقرأ أيضًا: «كأس العرب»: المغرب يضرب الإمارات بثلاثية ويبلغ النهائي عن جدارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى