عمر غازيكُتاب الترند العربي

تجويع غزّة… حين تصبح الحقيقة خجولة

تجويع غزّة… حين تصبح الحقيقة خجولة

عمر غازي

غزّة ليست جائعة فقط، بل مجرَّدة من المعنى. منذ اللحظة الأولى، تحوّل الجوع من حالة إنسانية إلى أداة سياسية، ومن كارثة إنسانية إلى ورقة ضغط، حتى باتت صور الأطفال الباحثين عن الخبز تُستخدم لتمرير سرديات لا علاقة لها بالإنقاذ، بل بالاصطفاف.

وسط هذه الفوضى، يلمّع البعض رواية واحدة: أن مصر تغلق معبر رفح، وأنها تعيق الإمدادات. هذه المقولة تتردّد في الفضاء الرقمي والسياسي كأنها من المسلّمات، رغم أن الوقائع على الأرض – وبشهادة المؤسسات الدولية – تقول عكس ذلك تمامًا. تقول إن مصر لم تغلق المعبر يومًا، وإن من يغلقه فعليًا هو الطرف المسيطر على الجانب الآخر.

في 2024، أكدت لويز واز، مديرة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط، أن القاهرة هي الطرف الأكثر التزامًا بتسهيل المساعدات، وأن تعطيل دخولها لا يتم من الجانب المصري، وفي تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وُثّق أن أكثر من 80% من القوافل التي تعطّلت، كانت تنتظر تصاريح العبور من الجهات غير المصرية.

ورغم هذا، تبقى مصر في مرمى السهام. كأن ثباتها أصبح إدانة، وكأن دورها الوسيط لم يعد كافيًا. فهناك رغبة قديمة لدى بعض القوى أن تجرّ مصر إلى حافة المواجهة المباشرة، لا لأن ذلك يخدم غزة، بل لأنهم يعرفون أن دخول مصر سيُربك كل التوازنات. في مشهد الصراع، من المريح أن تتهم أكثر الدول عقلانية، لأنها لا تردّ بالمزايدة، بل بالصمت والعمل.

منذ بداية الحرب، قدّمت مصر أكثر من 2000 شاحنة مساعدات. فتحت مطاراتها، استخدمت مستودعاتها، ضغطت في المفاوضات، لكنها لم تسجّل هذا في خطاب، ولم تحوّله إلى دعاية. في عالم العلاقات الدولية، هذه سُبّة لمن لا يملك سجلًا مشابهًا. لذلك، تصبح الكذبة أكثر جاذبية من الاعتراف بالحقيقة.

الحقيقة أن غزة تُجَوَّع. لكن من الذي يُجَوِّعها؟ من يسيطر على الحدود ويمنع المعابر؟ من يربط إدخال المساعدات بشروط سياسية؟ من يستخدم الحصار أداة لتمديد نفوذه؟ إن الإجابة ليست في القاهرة، بل في مكانٍ لا أحد يريد أن يُشير إليه.

وهنا يُطرح السؤال الأخلاقي الحقيقي: هل يحق لأحد أن يُحمّل مصر ذنب جغرافيا لم تصنعها؟ وهل يُعقل أن تُلام الدولة الوحيدة التي أبقت على شعرة الاتصال، لأن غيرها قطعها؟ إن معايير العدالة لا تُقاس بعدد التصريحات، بل بكمّ الوقائع. ومن ينكر هذه الوقائع، فهو لا يُدافع عن غزة، بل يُزايد باسمها.

ما يحدث اليوم هو محاولة لتدويل الخطأ، لصياغة سردية تستبدل المجرم بالوسيط، والمُغيث بالمتهم، وهذه ليست فقط جريمة سياسية، بل تشويه للتاريخ. فمصر – رغم كل الضغوط – لم تساوم على موقعها، ولم تسقط في فخ التجييش. كانت ولا تزال تقف في الظل، لأن الضوء في مثل هذه المعارك لا يكشف الحقيقة، بل يُغرقها في ظلال الدعاية.

لا تحتاج القاهرة إلى دفاع، بل إلى ذاكرة، والذاكرة هنا لا تعني الصور، بل الأرقام. لا تعني الخطابات، بل السجلات، ومن يقرأ هذه السجلات جيدًا، سيكتشف أن أكثر من يجوع غزة… هو من يُصوّر نفسه مشفقًا عليها.

ويبقى السؤال بلا إجابة، هل سينتصر الضجيج على الحقيقة، أم أن قليلا من التعقل سيقودنا إلى تسمية الأشياء بأسمائها؟

لمزيد من من مقالات عمر غازي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى