
زمن الكتاب الصوتي
زمن الكتاب الصوتي
سفيان البراق
قرأتُ في مؤلفٍ عُنيَ في التنقيب عن الموضوعات ذات البُعد التنويريّ التي ينضح بها تراثنا العربيّ وأعني: «كتاب الحِكمة العربيّة: دليل التراث العربيّ إلى العالميّة» لمؤلِّفه محمّد الشيخ، أنّ أبا منصور الثعالبي كان يقرأُ الكتبَ وهو يأكل؛ إذ كان يُمسك بيُسراه الكتابَ، وفي الوقت نفسه يدفَع بيُمناه اللّقمةَ إلى فمهِ، وهذه إيماءةٌ قويّة إلى المكانة التي احتلَّتْها عادةُ القراءة لدى القدامى.
إذ كانوا يقرأون وهُم يَستبسلون أمام وبيل السغب أو المَجاعة، ولم تفلح العِلل والعاهات في أن تجعلهم يرتدعون عنها، بل اتّخذوها شكلًا من أشكال مقاومة الضجر والسّأم، وجعلوها أيضًا حائط صدٍّ أمام غارات المشاعر السلبيّة التي تتمخَّضُ عن زواريب الحياة ودهارس دروبها، كما لم يتخلّوا عنها وهم يُجبهون قسوة الطقس ووعورة الأرض وشظف العيش، وانكبّوا عليها أيضًا وهُم مرتحلون من رقعةٍ إلى أخرى كما حصل مع الفيروز آبادي صاحب «القاموس» حيث كان يقرأ وهو يجوبُ الفيافي والقِفار، ولم ينفكّ عنها وهو يُقاومُ البرد الشديد أو يقفُ حاملًا الكِتاب جسورًا تحت أشعة الشّمس اللّافحة؛ إذ إنّ الشّغف عنده، وعند القدامى، كان أقوى من الظروف العصيبة التي واجهتهم بسخاءٍ بائن بالكاد يخفى (للاستزادة راجع المؤلَّف المذكور، باب القراءة، بيروت، ط1، 2008).
غيرَ أنّ المُلاحَظ في هذا الزمن هو أنّ التقنيّة قد تفشّت ومسّت مختلف مناحي الحياة، وما تركتْ مجالًا إلّا واحتلَّته وأثَّرت فيه، وذلك يظهر بجلاءٍ كبير من خلال انتشار كُتبٍ تُنعتُ بـ«الكُتب الصوتيّة» التي غَزَتْ حياتنا، وقَلَبَتْ معنى القراءة، وغيَّرَتْ معالِم هذه العادة بعدما أضحى الإنسانُ يسمعُ كِتابًا من دون أن يتجشَّمَ عبءَ التنقُّل إلى المكتبة مضيِّعًا كومةً من المشاعر المُتمخِّضة عن النَّبش عن كتابٍ نادرٍ في وسط الآلاف من الكُتب، مُفوِّتًا عليه ضخّ الانتعاش في نياطِ قلبه جرّاء شمّ رائحة الأوراق البالية. كما أنّه لم يَفلح في اكتشاف لذَّةِ تدوين الهوامش والتعليقات في حواشي الكُتب، والتسطير على العبارات التي تُلامِس أوتار قلبه، وقد تخدمُ فكرةً يعمل على توضيحها، فضلًا عن أنّ مُطالَعةَ الكتاب الورقي تقتضي التركيز، وتحثُّ النَّفسَ على التفاعُل مع ما يقرأه المُطالع.
قد يتقدَّمُ مُنافحٌ عن هذه التحوّلات التي باتَ يرزحُ تحتها الإنسانُ المُعاصِر، ويزعم أنّ الإنسان يجبُ أن يكون مواكبًا للتبدُّلات التي طَرأت على دُنيانا، وألّا يكونَ بمنأىً عن الواقع، وما ينضحُ به. وهذا زعمٌ معقولٌ. لكنَّ النزوعَ إلى الكُتبِ الصوتيّة هو نتاجٌ للتسارُع الذي أضحى يلفُّ الزمن في هذا العصر؛ إذ إنّ الإنسانَ لا يَجِدُ وقتًا ليقرأ الكتابَ الورقيّ وهو الذي لا يعود إلى بَيته إلّا مساءً بعدما هدّ التعبُ بَدَنَهُ، وارتجَّت نفسُهُ من تعاسة الروتين، وقلقلَ الجوعُ كَبدَه، وهو ما يدفعه إلى سماع هذه الكُتب وهو على مَتن السيّارة مُشتَّتَ الانتباه في ظلّ ازدحامٍ خانقٍ، أو وهو يتبضّعُ ويتخيّر ما تشتهيه نفسه من أشياءٍ قابلةٍ للاستهلاك في ظلّ ضوضاءٍ تَغمر مراكز التسوُّق التي تَبعث على التوتُّر في النَّفس وتدحرُ الرويّة، أو يسمعه حينما يكون في صالة الرياضة يسعى جاهدًا إلى مُحارَبة البدانة وتبديد الطّاقة السلبيّة التي تراكَمت جرّاء تكالُب المشاعر السيّئة على نفسيّته من إنهاكٍ وتوتُّرٍ وتفكيرٍ زائد في تفاصيل حياته اليوميّة: مصاريف الاستهلاك، قروض البنك، التفكير في تغيير الأثاث والسفر… إلخ. وحاصل القول إنّ القراءة فعلٌ يحتاجُ إلى صفاء الذّهن، ويقتضي راحةً تعمُّ القَلب، ويتطلّبُ شَغَفًا استثنائيًّا للتسكّع بين ردهات الكُتب، من دون أن توجد ملاهٍ قد تُذهب العقل، وتشوِّش على التركيز والتروّي الضروريَّيْن في أثناء مُمارَسة هذه العادة.
ضرورة الانعزال
لقد شوَّهت التقنيّةُ هذه العادة النبيلة، وزجَّت بالكتاب الورقي في دواليب النّسيان والإهمال. والأدهى من كلّ هذا هو أنّ الإنسان لم يستغلّ وفرة التكنولوجيا ليقوّي علاقته بالقراءة، ويُعزِّز صلته بها، بل نحا منحىً آخر يتجلّى في الجنوح إلى الأشياء السهلة، المُتاحة، المتوافرة لدى مختلف النّاس بدعوى استغلال نتائج التقنيّة.
ولعلّ ما نتج عن ذلك هو أنّ الإنسان صار فاقدًا للمَقدرة على التركيز، وبالتالي أضحى العقل عنده مكبَّلًا، عاجزًا عن التفكير المُتريّث، بل ميّالًا إلى التفاصيل السّطحية التي لا تُرغمه على رفْع منسوب التركيز والتفكير المُتمهّل. لذا لا انذهال حينما نسمع أنّ الناس باتت تجنحُ صوب الكُتب الصوتيّة أو تلاخيص الكُتب عبر «كبسولاتٍ» جوفاء، وفي غاية الاقتضاب، التي اجتاحت «السوشال ميديا»؛ لأنّ الكائن البشري صارَ الآن متولّعًا، مفتونًا بالأشياء المُختصَرة، المُختزَلة.
ولعلّ ما يُلاحَظ هو أنّ طاقة الجلوس ومَسْك الكتاب والقراءة بتريّثٍ، وتلافي كلّ ما قد يغتال التركيز، وإعمال النّظر في كلّ فكرة يتلقّاها مُستعينًا بالبصيرة، لا مكتفيًا بالبَصر وحده، وأن يكون دائبًا على أمورٍ رئيسة: التأنّي في القراءة، دحْر الملاهي، ضرورة الانعزال، استدعاء قدرٍ عالٍ من الانتباه، الشكّ فيما يَقرأ، مرورًا بالتفكير في مضامين الكتاب جدّيًّا وتحليلها، وصولًا إلى نقْدها، وهي خواصٌّ باتت مفقودة في هذا الزمن الضنين على عادة القراءة؛ حيث صارت فيه وسائل القراءة كثيرة ومريحة، بينما تضاءلَ المُهتمّون بها، غير أنّ طائفةً ممَّن سَكنهم شغفُها هُم مَن صنعوا الاستثناء وظلّوا أوفياءً لها وحَرسوها من البوار.
الذي لا يستقيم إطلاقا
قد لا يَختلف اثنان حول أنّ تجربة الحداثة الغربيّة هي تجربةٌ انضوت على جملةٍ من المحاسن التي استفاد منها الكائن البشري، وسهّلت حياته، وجَعلتْها يسيرة. وهذا مُستحبٌّ ومرغوبٌ فيه، غير أنّ هذه المَحاسن لا يُمكن أن تَخدعنا وتَجعلنا غافلين عن المساوئ التي رافقتْ تجربة الحداثة بعد الاكتشافات العلميّة اللّمّاحة خلال القرن السادس عشر، وأعقبتها ثورةٌ هائلة في التصنيع والإنتاج خلال القرن التّاسع عشر، وما لبثت هذه الثورةُ الصناعيّة أن تحوَّلت خلال القرن العشرين إلى ثورةٍ باعثة على الانذهال في إنتاج الوسائل والتقنيّات المتطوّرة التي امتلكها الإنسانُ وسعى إلى توظيفها، لتغزوَ حياته، وتَجعل اليد شبه معطَّلة وخارج الخدمة، وأخذت تزحف تدريجًا حتّى وصلتْ إلى مرحلةٍ تُحاول فيها شطْب الكِتاب الورقي؛ حيث تفشَّت، منذ سنواتٍ، الكُتب الإلكترونيّة وأَخذت تنتشر مُخلِّفةً سجالًا بين الولِعين بالكِتاب الورقي وبين المُتبرّمين من هذا الأخير، الذين رأوا فيه عبْئًا لا يُحتمل؛ ذلك أنّ الإنسان صار بإمكانه اقتناء لوحةٍ إلكترونيّة ليبدأ في التنقُّل بأريحيّة تامّة بين الكُتب التراثيّة الضّخمة المكوَّنة من مجلّداتٍ ثقيلة. بيد أنّي أعتقدُ اعتقادًا راسخًا، وفي غاية الجديّة، أنّ المتعة التي يجدها الإنسان في تصفُّح الكِتاب الورقي غيرُ قابلةٍ للمُقايَضة في كلِّ الأحوال والظُّروف.
وبعد هذا السّجال ظَهرتِ الكُتب الصوتيّة الخالية من الإمتاع والمؤانَسة؛ حيث يشرعُ إنسانٌ نصَّبَ نفسَهُ قارئًا في نقْلِ صفحاتٍ عديدة من الكِتاب صوتيًّا بلا أيّ شعورٍ يُنبئ بتأثُّرِهِ بالحَدَثِ أو بتفاعله مع القضيّة، بل الأنكى أنّه ينقل النصّ بلا أيّ شعورٍ إنسانيّ قد يؤثِّر في المُستمِع. وهذه المُهِمَّة يُمكن للآلة أن تتولّاها في ظلّ هذه الثورة المُربكة التي بات يعيشها العالَم منذ اكتشاف تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي غيَّرتْ جُملةً من المعاني التي كانت تسري في العالَم من ذي قَبل مثل معنى الإبداع؛ حيث صار برنامجٌ من هذه البرامج يُشيِّد نصوصًا أدبيّة باذخة من دون أيّ نَفَسٍ إنسانيٍّ.
ما يلطف النفس
الكتاب الصوتي هو تجلٍّ واضحٌ للأزمة التي لفّت الإنسان المعاصر؛ الفاقد للصبر والقدرة على التحمُّل، المُعجب بالإيجاز الشّديد، المُحبّ للأشياء البديهيّة والمألوفة، المفتون بوسائل الراحة، المُغرَم بوضعيّات الكَسَل والخمول، المُتبرِّم من التفاصيل المعقّدة التي تَستفزّ ذِهنَهُ وتُرغمه على رَويّة التفكير، وقد ينجم عن ذلك تعبُ العقل، وهو ما صار يتفاداه. علاوة على أنّه غدا هاربًا من كلّ نشاطٍ يستوجب قدرًا من الجهد واستعمال جلّ جوارحه؛ لذا فإنّه أضحى يُفضِّل سماعَ كِتابٍ من دون أن يكلِّف نفسَه عناء القراءة واستحضار التركيز واستدعاء البصيرة. جديرٌ بالذكر هنا أنّ الإنسان المُعاصِر باتَ لا يتحمّل المسؤوليّة كاملةً في هذه الأزمة؛ إذ إنّ التقنيّة حينما ذاعتْ وانبسطتْ وغَمرتْ حياته لم يَجد سبيلًا ناجعًا أو طريقةً محكمةً للتعامل معها باعتدالٍ ويتحكَّم فيها؛ وذلك ما أدّى إلى خنْقه وجعْله لعبةً مطّاطيّة في يدها تُشكِّله وتُسيِّرهُ وتصيِّرهُ كيفما تبتغي، ومن دون أن يُبدي منافحةً تُذكَر أمام كلِّ ذلك. فصار يعيشُ حياةً لم يختلقها هو، بل فُرضت عليه. وصارَ يسمع الكتاب الصوتي ليوهِمَ نفسَهُ بأنّه «قارئ» له وشائجٌ بالكُتب. غير أنّ القراءة أعمق من أن تُختزَل في كتابٍ صوتيٍّ تسمعه. صحيح أنّ «الأذنَ تعشقُ قَبل العَيْن أحيانًا» كما قال بشّار بن برد، خاصّة إذا تعلَّق الأمر إمّا بإنسانٍ ضرير عَوَّضَ عينَيْه بأُذنه، أو بالموسيقى، وكلّ ما يُلطِّف النَّفس ويُهذّبُ طِباع المرء، إلّا أنّ ذلك لا يَستقيم إطلاقًا في عالَم القراءة.
المصدر: الوطن