عمر غازيكُتاب الترند العربي

هل أنت مريض نفسي؟

عمر غازي

في عام 2018، نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا عن الصحة النفسية كشف أن 46% من البالغين سيعانون من اضطراب نفسي واحد على الأقل خلال حياتهم، هذه الأرقام قد تبدو صادمة، لكنها تطرح سؤالًا أكثر أهمية: من هو المريض النفسي حقًا؟ وهل كل من يشعر بالقلق أو الاكتئاب يُصنف على أنه مريض نفسي؟ أم أن هناك فرقًا بين التوتر العابر والاضطراب العقلي الفعلي؟

في عام 2021، انتشرت قصة حقيقية أثارت الجدل في بريطانيا، حيث تم فصل أحد الموظفين من عمله بعد أن وصفه مديره بأنه “غير مستقر نفسيًا” لمجرد أنه طلب تخفيف ضغط العمل بسبب الإرهاق، لاحقًا، أظهرت الفحوصات أن الموظف لم يكن يعاني من أي اضطراب نفسي، لكنه كان تحت تأثير إجهاد مفرط أدى إلى انخفاض أدائه، هذه القصة ليست حالة فردية، بل تعكس كيف أن مفهوم المرض النفسي يُساء فهمه وتوظيفه في كثير من الأحيان.

في العالم العربي، يحيط مفهوم المرض النفسي بالكثير من الوصم الاجتماعي، حيث يعتقد البعض أن الحديث عن الصحة النفسية هو اعتراف بالضعف، بينما تشير دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية عام 2021 إلى أن 70% من المصابين باضطرابات نفسية في العالم العربي لا يسعون للعلاج خوفًا من الوصمة المجتمعية، هذا يعكس فشلًا واضحًا في إدراك أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة تؤثر على جودة الحياة.

المشكلة الأساسية أن مفهوم “المرض النفسي” أصبح مشوشًا بين العامة، فهناك فرق جوهري بين التوتر العابر والاضطرابات المزمنة مثل الاكتئاب الحاد والفصام واضطراب الشخصية الحدية، حيث أظهرت دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2020 أن 80% من الأشخاص الذين يعانون من القلق المزمن لا يدركون أن حالتهم تحتاج إلى تدخل علاجي، بينما يخلط 60% من الناس بين المزاج المتقلب والاضطراب النفسي الحقيقي.

لكن كيف يمكن التمييز بين الحالة النفسية العابرة والمرض النفسي الفعلي؟ وفقًا لجمعية الطب النفسي الأمريكية، فإن الأعراض التي تستمر لفترة طويلة، وتؤثر بشكل مباشر على الأداء الوظيفي والاجتماعي للفرد، هي ما يحدد ما إذا كان الشخص بحاجة إلى مساعدة نفسية أم لا، فعلى سبيل المثال، الجميع يشعر بالحزن في بعض الفترات، لكن الاكتئاب السريري يتجاوز ذلك، حيث يستمر لأكثر من أسبوعين متواصلين، ويؤثر على القدرة على العمل والتفاعل الاجتماعي، بل وقد يؤدي إلى أفكار انتحارية.

في المقابل، هناك فئة أخرى من الأشخاص يعتقدون أن كل من يختلف عنهم في التفكير أو السلوك هو “مريض نفسي”، وهذا ما يُعرف في علم النفس بالإسقاط، حيث يميل البعض إلى نعت الآخرين بالاضطراب لتجنب مواجهة مشاكلهم الشخصية، ففي دراسة نشرتها جامعة كاليفورنيا عام 2019، وُجد أن 40% من الأشخاص الذين يستخدمون مصطلحات مثل “مجنون” أو “مضطرب” في وصف الآخرين، يعانون في الواقع من مشكلات نفسية غير مشخصة، لكنهم يجدون سهولة في رؤية العيوب في غيرهم بدلًا من مواجهتها في أنفسهم.

إضافة إلى ذلك، فإن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في انتشار مفهوم خاطئ عن الاضطرابات النفسية، حيث أصبح البعض يستخدم مصطلحات مثل “اضطراب الشخصية النرجسية” أو “الاكتئاب الحاد” بشكل عشوائي، دون إدراك المعنى العلمي الحقيقي لهذه التشخيصات، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة أكسفورد عام 2022 أن 65% من التشخيصات النفسية التي يتم تداولها عبر الإنترنت غير دقيقة أو مبالغ فيها، مما يزيد من انتشار المفاهيم المغلوطة حول الأمراض النفسية.

لكن السؤال الذي يظل قائمًا: هل يمكن لمجتمعنا أن يتعامل مع الصحة النفسية كما يتعامل مع الصحة الجسدية؟ وهل يمكن أن يأتي يوم يصبح فيه الذهاب إلى طبيب نفسي أمرًا عاديًا مثل الذهاب إلى طبيب الأسنان؟ الإجابة لا تعتمد على الطب وحده، بل على مدى استعداد الأفراد لكسر الحواجز النفسية والثقافية التي تجعل الاعتراف بالمشكلة أصعب من حلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى