![هلا خباز](https://arabiatrend.com/wp-content/uploads/2023/09/h.jpg)
صدفة ومن بين كل الناس
هلا خباز
على مقعد الحديقة جلست أستعيد شريط مر سريعًا، يداعب الهواء خصلات شعري، أمسك كوب قهوة بلا دخان.. مر وقت طويل وأنت سارحة!
سأحضر لك كوب قهوة جديد .. صحيح أنا أحمد
ولم نتوقف عن تلك العادة، أجلس على مقعد الحديقة ويستبدل لي كوب القهوة.. ولم نعد نتحدث عن أحوال الطقس، و ترند الأسبوع.. أصبحت أقول له: تأخرت؟ واشتقت لك.
كم مرة التقيت بعابر تبادلتم معه أطراف الحديث.. وخرجتم بعد ذلك اللقاء أصدقاء الروح، وكم مرة أغمضت عينيك على مشهد رسخته السينما لشابة تُوقع كتبها ليساعدها شاب يمر صدفة بالمكان فتلتقي العيون بأولى إشارات الإعجاب.
وفي هذا الصدد غنى الفنان محمد عبده
كان حلمي ذا اللقا، واليوم بالصدفة التقينا
و يا هـلا بك يالصدف
شفتك و راح الشقا و غردّت الأشواق فينا
ونبضنا الوافي عزف
عن الصدف الجميلة سأحكي، عن الصدف التي تغير مسار حياتنا، عن الصدف التي تطلق الفراشات في وجه الريح.. ما الذي يجعل لعلاقات الصدفة طعم الحلوى بعد فنجان اسبرسو مر؟ هل هو إيماننا بأنهم هدية الرحمن في عز الحاجة والانكسار؟ أم أنه تصديقًا بأن القدر سيتدخل ليُحيي فينا الأمل؟ أو أنه من شعور الأمان الذي نستمده من يقيننا بأنهم غرباء لن تجمعنا بهم الصدف مرة أخرى!!
لا شيء يحدث بالصدفة.. لا أحد يذهب للرحلة دون سبب مقولة دونها لنا جلال الدين ابن الرومي، لا تصدق أنك ضعت بالطريق بلا سبب، وأنك لبيت دعوة عشاء بعد تردد بلا هدف، وأنك قبلت بعرض عمل لم تفكر كثيرًا به بلا توجيه قدري.
تقول الروائية الكويتية بثينة العيسى :”تعيش حياتك ويخيّل إليك بأنك تبحث عن المعنى، عن الجوهر الملتبس في قلبِ وردةٍ بألف تويج، أنّك تفتح التويجات، واحدًا بعد الآخر، نافذًا إلى قلبِ الوردة.. تعيش مؤمنًا بأن ثمة وردة، أن للوردة قلب، أن المعنى في القلب، أن المعنى موجودٌ سلفًا، وجوده يسبق وجودك، وكلّ ما عليك فعله هو أن تبحث عنه”.
عن لمعة الأعين وابتسامة داخلية تؤكد مقولة قرآناها سابقًا وخطرت ببالنا فورًا.. لابد أن تقودنا الصدفة إلى شيء عظيم وعميق.
رب صدفة تحيي الأمنيات.. عن تلك الصدف التي تجعلنا نتمسك بالنور الذي يظهر على هيئة أناس يشبهوننا ويتركون الأثر في دواخلنا لأعوام.. عن الصدفة التي تجمعنا بمن يحيون فينا أعذب الألحان.. عن الصدفة التي تجعلنا مرئيين لأول مرة نعبر عن دواخلنا بلا تزيف أو تلوين.. عن الصدف التي تجعلنا نتمسك بأمل يظهر على هيئة بشر يظهرون في حياتنا على حين غرة ويصبحون جزء لا يتجزأ من حكاية العمر.
عن تلك المشاعر التي تأتينا فجأة مع شخص التقيناه صدفة في اجتماع عمل أو على قارعة الطريق ليغير مشاعرنا ويعيد ترتيب أفكارنا.
يقول واسيني الأعرج في رواية شرفات بحر الشمال: “الصدفة تسير أحيانًا بتوقيت القلوب”.
سيأتي.. “فمن جمع العشاق في السماء سيجمعهم صدفة على الأرض”.
“قلبي مقعد حجري مغطى بالأوراق، موضوع في الطريق للتوقف والراحة. سَتردُّكِ إليه الصدفة أو ستعيدك الريح. أنا في انتظارك. وإلى اللقاء بعد قليل ” .. هذا ما وعدها به الطاهر بن جلون في تلك العتمة الباهرة”.
حب الصدفة هو ذلك الشعور الذي يأتينا كعاصفة تقلب الموازيين دون ترتيب أو قصد منا، فيغير مشاعرنا وقلوبنا وحتى طريقة تفكيرنا.. وهو الحب الذي طالما تغنت به أحلام مستغانمي: “أجمل الحب هو ما نجده أثناء بحثنا عن شيء آخر”.. هي الصدفة التي تجعلنا معلقين بهم بخيوط حرير متينة رغم رقتها، مهما ابتعدنا تعيدنا إليهم الصدفة من غير حول لنا ولا قوة، ولمحمود درويش عبارة جميلة يقول فيها: “أجمل مافي الصدفة أنها خالية من الانتظار”.
فحينما يهدينا القدر صدفة لابد أن نتشبث بها وأن لا نتركها، أن نؤمن بأن خلفها لطف كبير وأنها تأتينا بكل ما حلمنا به دون الخوف من الخذلان، دون انقباض الترقب والانتظار، دون الخوف من المشي بخطوات تائهة نحو المجهول.. حب الصدفة هو الذي يجعلنا نمشي خلف اليرقات المضيئة التي ستأخذنا إلى النور.