الذكرى المئوية لميلاد الفنان “محمود مرسي”
د. وليد سيف
ضمن تقليد أرساه مهرجان الإسكندرية السينمائي منذ عدة سنوات، أصبح يقيم ضمن فعالياته احتفاءً بالذكرى المئوية لميلاد كبار الفنانين المصريين، وقد حلت هذا العام ذكرى الفنان الكبير محمود مرسي «7 يونيو 1923 – 24 إبريل 2004» الذي أثرى الحياة الفنية في مصر والعالم العربي، وشكَّل بأدائه علامة متميزة ومرحلة فارقة في فن التمثيل السينمائي عبر عشرات الأدوار التي قدمها بأسلوب شديد التميز، وبقدرة لافتة على التعبير بطرق متقدمة، وغير مألوفة أو مسبوقة.
قدم مرسي خلال مسيرته السينمائية 25 فيلمًا وهو رقم قليل حتى مع النظر لدخوله الساحة متأخرًا بعد مشوار طويل في الإذاعة ثم التلفزيون، لكن رغم قلة أعماله في السينما، فإن 6 من الأفلام التي قام ببطولتها اختيرت ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
ذلك طبقًا لاستفتاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته لعام 1996، وهي: «السمان والخريف»، و«شيء من الخوف»، و«أغنية على الممر»، و«زوجتي والكلب»، و«ليل وقضبان»، و«أبناء الصمت».
لا شك أنها نسبة كبيرة جدًّا أن يكون ربع أعمال الفنان السينمائية من روائع الأفلام، وهي مسألة تدل على حسن اختياره وارتباط اسمه بأعمال ذات قيمة، فهو لم يكن حريصًا فقط على مستوى الدور الذى يقدمه ولكن على مستوى العمل الفني ككل.
إلى جانب إسهاماته المهمة في التمثيل السينمائي، فله أيضًا إسهامات في غاية الأهمية كممثل تليفزيوني في أعمال عديدة منها مسلسلات: «زينب والعرش» و«أبو العلا البشري» و«العائلة» و«عصفور النار»، وغيرها. وهذا فضلًا عن روائع بلا حصر قدمها في الإذاعة ممثلًا ومُخرجًا متمكّنًا لكلاسيكيات الدراما العالمية وتُعد من كنوز الإذاعة المصرية.
عاش محمود مرسي حياته عازفًا عن الأضواء، وطوال مشواره العملي الذي يزيد على نصف قرن لا تجد له حوارًا صحافيًّا أو برنامجًا تلفزيونيًّا إلا فيما ندر، فلا يكاد جمهوره يعرف عن حياته الخاصة سوى زواجه بالفنانة سميحة أيوب وإنجاب ابن منها هو الطبيب الفنان علاء، بل إن غالبية المعلومات الشائعة عن قصة هذا الزواج نعرفها من خلال الفنانة الكبيرة التي روتها في أكثر من موضع بتفصيل وصدق ومحبة وتقدير واضح.
لم ينشغل مرسي قط بحسابات النجوم، ولا بالمظاهر الخادعة، ولا بثروة ضخمة، كان بإمكانه أن يُحققها لو لم يكن دقيقًا في اختياراته، حريصًا على جودة أعماله، مُخلصًا أشدّ الإخلاص للشخصيات التي قدمها؛ «ليس من المهم أن ينساني الناس المهم أن يتذكّروا الشخصيات التي قدمتها.. لا أحب أن ينظر إليّ الناس، أُفضّل أن ينظروا إلى أعمالي.. لا أهتم بأن أكون نجم شباك، المهم أن يصل عملي إلى الناس.. لا أهتم بالدعاية لعملي، لأن المفروض العمل يقدم نفسه للناس.. كل ما يقال عني بأنني ممثل عملاق واستثنائي كلام كذب ومبالَغ فيه، هذا يرجع لانحطاط المستوى الفني عمومًا، فيبقى الأعرج في بلد المكسحين أعجوبة».
هذه هي رؤيته للفن والحياة طبقًا للحلقة التي خصصها له برنامج الموهوبون في الأرض، هو يقول: «لم أفكر ولم أرغب في أن أكون ممثلًا ولكن كُتب عليَّ التمثيل كما لو كان قدرًا لا فكاك منه، وكلما كنت أهرب منه أُفاجأ به يحاصرني من جديد. إن التمثيل بالنسبة لي في كل المراحل كان أقرب إلى الكرة التي كنت أحاول التخلص منها، أقذفها بقوة على طول يدي إلى آخر مدى لكنها ترتطم بجدار، فتعود لى بالقوة نفسها».
إن محمود مرسي ظاهرة تستحق الدراسة من جوانب مختلفة بالفعل؛ فهو من الفنانين القلائل الذين لم يظهروا في السينما ولم تتحقق شهرتهم إلا بعد أن تجاوز سن الشباب، وهو أيضًا الفنان الذي استطاع أن يحافظ على وجوده على الساحة واستمراريته عبر عدة عقود.
وذلك من خلال نجاحه في عمله فقط ودون الاعتماد على أساليب الدعاية أو الشللية أو العلاقات الاجتماعية أو الاحتماء بالمؤسسات الرسمية أو الكيانات الإنتاجية، وهو أيضًا من أقدر الفنانين على تقديم الشخصيات الصعبة والمركبة، ومن أنجحهم في الهروب من النمطية.
«استطاع بقدراته وثقافته الواسعة أن يجسد أدوار الوداعة بالدرجة نفسها من الاقتدار الذي يعبّر عن أقصى درجات الشراسة، وأن يصل بمستوى التمثيل العربي إلى قمة من قمم الإبداع الخلاق، كما في دوري الشقيقين المختلفين المتواجهين في مسلسل «عصفور النار»، أو الشخصيتين المتشابهتين مع تباين في العلاقات في فيلم «شيء من الخوف»: عتريس الجد، وعتريس الحفيد».
«هنالك مَسحتان في أسلوب محمود مرسي: السطو العقلي حيث يمكنه «التعبير عن موقف مستتر دون الإعلان عنه، حيث يملك إمكانية هائلة للإيحاء بما يضمره».. والأخذ والعطاء، حيث يحقق إنجازات كبيرة مع فنانين زملاء، ليس ثمة تنافس بل أخذ وعطاء بني على التفاهم العميق» محمد عبيدو.
لم يتوقف تأثير محمود مرسي عند حدود إسهاماته المؤثرة في أعمال خالدة وروائع لكبار المخرجين، ولا في أجيال من المخرجين شجعهم ودعمهم ووقف إلى جوارهم في بداياتهم، ولا في أجيال من الممثلين قدموا بعضًا من أفضل أدوارهم بفضل احتكاكهم به وتجربتهم معه.
لكن علاوة على كل هذا فإن أداء مرسي المرهف بالغ الخصوصية أثر تأثيرات إيجابية في النقد السينمائي للممثل، الذي كان يأتي من قبل في نهاية اهتمامات الناقد.. فقد دفع مرسي في أدائه للشخصيات المركبة النقاد إلى تأمل أسلوبه وتصنيفه وإبراز خصائصه.
كان يؤدي بتفهّم كامل لأبعاد الشخصية التي يؤديها، اجتماعيًّا ونفسيًّا وخلقيًّا وجسمانيًّا؛ يتدرج في الانفعالات، متحولًا بليونة من شعور لآخر، وفق منطق سليم وصحيح، ومن خلال لمسات أسلوبه الخاص.
لا شك أيضًا أن دخول محمود مرسي إلى عالم السينما في السنوات الأولى من الستينيات كان موازيًا لنهضة سينمائية كبيرة، ذلك بدخول القطاع العام إلى الإنتاج، وسعي الدولة نحو تقديم إنتاج سينمائي وطني وعلى مستوى.
وهو ما هيأ لمرسي أن يشارك في كل هذا الكم من الروائع، وأن يستفيد من هذا المناخ الذي ظهرت فيه أعمال عن أصول أدبية مصرية مختارة، وتطورت فيه الأساليب الفنية، وظهرت الأجيال الأولى من خريجى معهد السينما وفناني التليفزيون العائدين من بعثات في الخارج.
كان من بينهم محمود مرسي، الذي شارك أيضًا بالتدريس في معهد السينما إلى جانب معهد الفنون المسرحية ليضيف إلى عطائه الفني عطاءً علميًّا وتعليميًّا مؤثرًا، فما زال طلابه يذكرونه بالفضل، فهو لم يكن أستاذًا عاديًّا بل كانت له شخصية وأسلوبية خاصة تركت أثرًا كبيرًا في طلابه الذين ما زالوا يتذكرونه حتى اليوم.
ولأن الصداقة كانت لدى محمود مرسي تعني أن قرابة الفكر والروح قد تكون في بعض الأحيان أقوى وأوثق من قرابة الدم.. من هنا جاء في سطور نعيه بناء على وصيته أنه كان صديقًا لفلان وفلان وفلانة. دستة من الأصدقاء ظل حيًّا يعيش بينهم بأقواله وأفعاله وعطائه وثقافاته وعطفه وحنانه: الزوجان محمد سعيد سلامة وزوجته عائشة نوفل، والمهندس ميشيل مرقص والكاتب إدوارد الخراط وتلامذه قدامى تخرجوا على يديه، وبعض من رواد مائدة محمود مرسي في مقهى أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة.
المصدر: سوليوود