عشاق الخرافة
عمر غازي
منذ فجر التاريخ، كانت الخرافات والأساطير جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، ففي مصر القديمة، اعتقد الفراعنة بوجود حياة بعد الموت، حيث تزود الملوك بالأمتعة والمجوهرات داخل قبورهم لرحلتهم الأبدية، وفي اليونان، ازدهرت الأساطير التي تروي قصص الآلهة والأبطال مثل هرقل وأطلس، وقد أضحت جزءًا من التراث الثقافي الذي لا يزال يتردد صداه حتى اليوم، حتى في العصور الوسطى، استحوذت الخرافات عن الساحرات والمخلوقات الخيالية مثل التنانين على خيال الناس وأثرت في حياتهم اليومية ومعتقداتهم.
في العصر الحديث، وعلى الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي، لا يزال العديد من البشر يتعلقون بالخرافات، فقد كشفت الدراسات النفسية والاجتماعية عن ميل البشر إلى تصديق الأساطير والقصص الخارقة للطبيعة عندما يشعرون بعدم الأمان أو في أوقات الأزمات، وأوضحت دراسة أجرتها جامعة شيكاغو أن الأفراد الذين يمرون بأزمات نفسية أو اقتصادية غالبًا ما يلجؤون إلى المعتقدات الخارقة كوسيلة للعثور على الأمل أو تفسير لما يحدث حولهم، ووجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يعانون من عدم اليقين المالي أو العاطفي يزدادون تمسكًا بالمعتقدات الخارقة، إذ تعتبر هذه المعتقدات وسيلة لتعويض الشعور بفقدان السيطرة على حياتهم.
وفي دراسة أخرى بجامعة هارفارد، وجد الباحثون أن الإنسان يميل إلى تصديق الظواهر غير الطبيعية عندما تكون الأحداث غير مفهومة أو غير مفسرة بالنسبة له، إحدى التجارب التي أُجريت في هذه الدراسة تضمنت عرض صور غير واضحة على المشاركين، ووجد الباحثون أن العديد من المشاركين افترضوا تلقائيًا أن هذه الصور تحتوي على معانٍ خفية أو رموز تتعلق بالعالم الخارجي، مثل الكائنات الفضائية أو الظواهر الروحية، وهذا الميل لتفسير الأحداث الغامضة بطرق خارقة يعكس حاجة الإنسان الأساسية للبحث عن النظام والمعنى في عالم غالبًا ما يكون مليئًا بالعشوائية والفوضى.
ورغم انتشار العلم والمعرفة، تظل بعض العلوم الشائعة مبنية على خرافات. علم التنجيم، على سبيل المثال، فهو يعتمد على فكرة أن مواقع النجوم والكواكب تؤثر على حياة الإنسان ومصيره، وهذا العلم، إن جاز تسميته علمًا، لعدم وجود دليل علمي يثبته، لا يزال يجد جمهورًا واسعًا بين الناس، فوفقًا لدراسة نشرتها جامعة أكسفورد، فإن أكثر من 25% من الناس في الولايات المتحدة يعتقدون بتأثير الأبراج على شخصياتهم وحياتهم اليومية، مما يعكس استمرار تأثير هذا النوع من الخرافات حتى في المجتمعات المتقدمة علميًا.
كما أن علم الأبراج، الذي يزعم قدرته على تحديد شخصية الإنسان ومستقبله بناءً على تاريخ ميلاده، يلقى رواجًا واسعًا في العديد من المجتمعات، هذا العلم الزائف يجد قبولًا واسعًا خصوصًا بين الشباب، الذين يبحثون عن طرق لفهم ذواتهم والعلاقات مع الآخرين، فقد أظهرت دراسة من جامعة ييل أن قراءة الأبراج يمكن أن تؤثر بشكل كبير على مزاج الأشخاص وسلوكهم، حيث يشعر البعض بتحسن في حالتهم النفسية بعد قراءة توقعات إيجابية، بينما يمكن أن يشعر آخرون بالقلق إذا كانت التوقعات سلبية.
العلاج بالطاقة أو ما يُعرف بـ”الريكي”، يعتبر مثالًا آخر على العلوم المبنية على خرافات، حيث يعتقد مؤيدو هذا العلم الزائف أن الإنسان يمكنه شفاء الأمراض من خلال تمرير الطاقة الإيجابية عبر يديه إلى جسم المريض، وهو الأمر الذي لا يزال مثيرًا للجدل، حيث لم يثبت علميًا ولكنه يلقى قبولًا بين بعض الناس الباحثين عن بدائل للطب التقليدي، فبحسب دراسة أجرتها جامعة ستانفورد فإن الأشخاص الذين يتلقون العلاج بالريكي يشعرون بتحسن نفسي وجسدي حتى وإن لم يكن هناك تأثير مادي ملموس، مما يشير إلى أن التأثير النفسي للإيمان بهذا النوع من العلاجات يمكن أن يكون قويًا بحد ذاته.
من العلوم الأخرى المبنية على الخرافة قراءة الكف، الذي يدعي القدرة على التنبؤ بمستقبل الإنسان من خلال خطوط يده، لا يزال يجد أتباعًا بين مختلف الثقافات. هذه الممارسة القديمة التي تعود لآلاف السنين تستمر في جذب الناس الذين يبحثون عن إجابات حول حياتهم ومستقبلهم، ومثله قراءة الفنجان وغيرها من أشكال الدجل.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الفينج شوي واحدة من الممارسات التي تعتمد على خرافات، حيث يعتقد ممارسوها أن ترتيب الأثاث واتجاهاته يمكن أن يؤثر على الطاقة الإيجابية والسلبية في المنزل، وبالتالي على صحة ورفاهية ساكنيه. هذه الممارسات، رغم عدم إثباتها علمياً، تظل شائعة في بعض المجتمعات الآسيوية والغربية.
ومن بين الأساطير والخرافات التي لا يزال هناك من يؤمن بها حتى يومنا هذا، نجد العديد من الأمثلة، مثل أسطورة مثلث برمودا التي تزعم أن هناك منطقة في المحيط الأطلسي تختفي فيها الطائرات والسفن بشكل غامض لا تزال تثير فضول العديد من الناس، رغم التفسيرات العلمية التي تفند هذه المزاعم. كذلك، تؤمن بعض الثقافات بوجود الكائنات الفضائية وزياراتها للأرض، وهي فكرة تعززها قصص عن مشاهدات للأطباق الطائرة واختطافات مزعومة من قبل كائنات فضائية.
ومن الخرافات الأخرى الشهيرة التي لا يزال البعض يؤمن بها نجد أسطورة الوحش لوخ نس في اسكتلندا، الذي يعتقد البعض أنه يعيش في بحيرة لوخ نس ويظهر أحيانًا للعيان. ورغم عدم وجود أدلة علمية على وجود هذا المخلوق، إلا أن الأسطورة لا تزال حية وتجذب السياح من جميع أنحاء العالم.
في خضم هذه الظاهرة، يمكننا أيضًا أن نلاحظ أن بعض الخرافات الحديثة قد تطورت مع تطور التكنولوجيا والعلوم، على سبيل المثال، تعتبر نظريات المؤامرة مثل فكرة أن الهبوط على القمر كان مزيفًا أو أن الحكومة تخفي حقيقة وجود كائنات فضائية في منطقة 51، من الخرافات التي لا تزال تجد لها مكانًا في عقول بعض الناس حتى اليوم، وهذه النظريات تتغذى على الشكوك العامة وعدم الثقة في السلطات والمؤسسات الرسمية، مما يجعلها تستمر وتنتشر.
كما أن الخرافات المتعلقة بالصحة والعلاجات البديلة تظل شائعة، فهناك مثلاً الخرافة التي تزعم أن لقاحات معينة يمكن أن تسبب أمراضًا خطيرة، رغم عدم وجود أدلة علمية تدعم هذه المزاعم. هذه الخرافات يمكن أن تكون خطيرة، حيث تؤدي إلى تراجع معدلات التطعيم وزيادة انتشار الأمراض التي يمكن الوقاية منها.
وفي بعض الأحيان، تنتقل الخرافات من مجرد قصص إلى صناعة تدر أرباحًا. صناعة الحظ والطالع، بما في ذلك قراءة البطاقات الفلكية والتارو، أصبحت تجارة مربحة في العديد من البلدان. الناس ينفقون الأموال للحصول على توقعات أو قراءات، مما يعكس رغبتهم العميقة في معرفة ما يخبئه المستقبل.
إضافةً إلى ذلك، هناك تأثير كبير للخرافات في مجال الرياضة، حيث يعتقد العديد من الرياضيين والمشجعين بالخرافات ويقومون بطقوس معينة قبل المباريات لجلب الحظ السعيد، كأن يرفض بعض اللاعبين يرفضون تغيير جواربهم التي ارتدوها في مباراة ناجحة، ويعتبرونها جالبة للحظ.
إن دراسة هذه الظواهر تكشف الكثير عن النفس البشرية وعن الطريقة التي يسعى بها الإنسان للتعامل مع المجهول، ورغم أن العديد من هذه المعتقدات قد تبدو غير منطقية، إلا أنها تلعب دورًا مهمًا في حياة الأفراد والمجتمعات، فمن خلال هذه المعتقدات، يعبر الناس عن مخاوفهم وآمالهم وطموحاتهم، ويسعون لإيجاد معنى في حياتهم.
الدوافع وراء ميل البشر إلى الخرافات رغم التقدم العلمي ومستوى التعليم لدى قطاع كبير من المصدقين بهذه الخرافات تتنوع وتتشعب، ولعل أحد الدوافع الرئيسية هو الحاجة النفسية للراحة والاستقرار في أوقات عدم اليقين، فالخرافات تقدم تفسيرات بسيطة وسهلة للأحداث المعقدة وغير المفهومة، مما يساعد الأفراد على الشعور بأنهم يملكون بعض السيطرة على حياتهم. هذا الشعور بالسيطرة يمكن أن يكون مهدئًا بشكل خاص في أوقات الأزمات، حيث يبحث الناس عن أي نوع من الطمأنينة، كما أن الخرافات تلعب دورًا اجتماعيًا مهمًا، فمن خلال الانتماء إلى مجموعة تتشارك نفس المعتقدات يمكن أن يوفر ذلك للأفراد شعورًا بالهوية والانتماء، وهو أمر مهم للرفاهية النفسية.
وأخيرًا، ما لا يمكن تجاهله هو أن الخرافات والأساطير هي جزء من النسيج الثقافي للبشرية، وتروي قصصًا تجمع بين الخيال والواقع، وتضيف لمسة سحرية إلى حياتنا اليومية.