فيلم «رذيلة متأصلة» بين سلطة الأديب وسلطة المخرج
عبدالرحمن أبوشال
اشتهر بول توماس أندرسون بأعمال كثيرة تركت أثرًا له في عالم السينما، ولكن Inherent Vice أو «رذيلة متأصلة» ليست منها، وذلك لتفرد هذا العمل من عدة نواحٍ، أبرزها هو أنها ليست من كتابة المخرج نفسه، بل أديب أميركي برزت أعماله في الستينيات والسبعينيات للقرن الماضي، وهو توماس بينشن Thomas Pynchon، وهو ليس أديبًا اعتياديًا يتخيله القارئ لو فكر في مفهوم «الأديب»، كما أن روايته التي حولها بول أندرسن لفيلم ليست بالشكل الذي اعتاده جمهور الأديب، إذ لم تحظَ روايته هذه بالشعبية ولا الاهتمام الأكاديمي التي حظيت به أعماله السابقة، والتحديات التي تقدمها الرواية للقراء الذين ليس شغفهم متابعة كل ما يتعلق بالأديب هي نفس التحديات التي يواجهها من يشاهد فيلم بول أندرسن، وهو الذي له جمهور مخلص يتابعون كل أعماله بشغف أيضًا، فالجمهور الآن أمام سلطتين، إن صح التعبير: سلطة الأديب وسلطة المخرج.
تتميز أعمال بينشن بتناولها مفهومين طاغيين في بنائه للقصص. المفهوم الأول هو الاعتلاج أو القصور الحراري، ويعربها البعض إلى «الأنتروبيا»، وهو مفهوم مستخلص من حقل الفيزياء، والكلام فيها يطول كمفهوم فيزيائي، ويكفي الحديث عن التغيير العشوائي الذي يحدث للأنظمة المعقدة التي تبدو أكثر انتظامًا في بدايتها، نتيجة مؤثر خارجي عليها، وتتجه نحو حالة أكثر فوضوية وعشوائية عبر مدة زمنية عند غياب المؤثر. فعلى سبيل المثال، يصل الماء إلى درجة الغليان نتيجة تعرضه للنار، وعند إطفائها تقل درجة حرارة الماء إلى أن تستقر عند درجة حرارة الغرفة، ولا يعود الماء إلى درجة الغليان من تلقاء نفسه. تجد هذا المفهوم في كل أعمال توماس بينشن، والتي تبدأ بحالة ثبات واستقرار وتتجه إلى العشوائية مع تقدم أحداث القصة إلى أن تصل إلى نهاية مربكة جدًا يصعب تفسيرها نتيجة الفوضى.
يرتبط المفهوم الثاني بالأول، وهو مفهوم الارتياب أو البارانويا التي تعيشها الشخصية الرئيسية للرواية، ولشدة التماهي معها يشعر القارئ بنفس الريبة، وذلك لكون القصة قد انتقلت من شدة الوضوح والانتظام إلى الفوضى العارمة، أي أنه القارئ يعي الأحداث التي شكلت القصة في بدايتها، وكلما تقدم في قراءتها كثرت عليه التفاصيل وزادت الأحداث غموضًا للحد الذي يدفعه للسؤال عن المغزى من القصة. لذا، تجد روايات بينشن تدور حول نظريات مؤامرة إلى حد ما تبدو منطقية في بداية الرواية، وتنتهي إلى نهاية مجهولة ولا تقدم إجابات شافية عما إذا كانت المؤامرة حقيقية أم أنها مزيفة. والرابط بين المفهومين منطقي جدًا، لأن العقل في حالة الفوضى يبحث في أطر المعرفة عن تفسير يربط كل الأحداث التي وقعت ببعضها.
غالبًا ما تفسر العلاقة بين هذين المفهومين في أعمال بينشن على أنها تمثل حالة ما بعد الحداثة التي غلب عليها نسبية المعرفة نتيجة وفرة المعلومات وانفتاح العالم في ظل العولمة للحد الذي جعل تصور الإنسان ما بعد الحداثي أن العالم فوضوي وعشوائي ولا يسوده نظام، وأكثر من يتأثر بذلك هو الرجل في سعيه للكشف عن معنى الحياة وتحقق ذاته فيها.
وهذه الحالة هي التي نجدها في شخصيات الذكور الرئيسية في غالب أعمال بول توماس أندرسن، ولعله هذا هو الذي دفعه لتحويل إحدى روايات بينشن لعمل سينمائي، وقدمه بشكل مختلف عن الرواية، والسبب هو أن أسلوب بينشن هو الكتابة بالحد الأقصى؛ أي أنه يتوسع في ذكر التفاصيل في رواياته، ما يجعل كتاباته جذابة ومثيرة، يغرق فيها القارئ من كثرتها، أما العمل السينمائي فمحدود رغم تعدد أبعاده، فكأن المشاهد للفيلم المقتبس من الرواية مضطر لرؤية تفسير المخرج، رغم حرصه الشديد على الحفاظ على كيان متماسك للقصة التي تنتهي بالفوضى وضياع المعنى.